الذخائر الفائقة الدقة: تقرير شامل
أعطت الولايات المتحدة أولويّةً للضربات الدقيقة البعيدة المدى وكذلك أدركت أهمية الضربات الدقيقة القصيرة المدى بـ «قذائف صاروخية ومدفعية وهواوين وصواريخ غير موجهة» G-RAMM. وتعتمد دقّة هذه الأسلحة سواء بسواء على دقّة نظام قياس عناصر الرمي المستخدم لتحديد موقع الهدف، والدقّة التي يمكن بها تلقيم إحداثيات الهدف في نظام الرمي.
تاريخياً بدأت المدافع عملها بالتسديد مباشرةً على الهدف، لكن مع ازدياد مدى المدفع، أصبح الرمي غير المباشر سيد الموقف، فيما نُشِر مراقبو المدفعية في مواقع أمامية لمراقبة الهدف وطلب الرمي وضبطه. وجرى تطوير علوم البالستيات لتقييم الطريقة التي سيرمي فيها المدفع والتي تشمل أيضاً تأثيرات الطقس والأحوال الجوّية، والجاذبية والتبدد الطبيعي لقذيفة المدفعية. ونَجَمَ عن ذلك عملية قياس بُعد الهدف، وذلك عبر وسيلة «التجربة والخطأ» التي كانت تهدر الذخيرة وتستهلك الوقت. وكان الاشتباك مع هدفٍ متنقّل بنيرانٍ غير مباشرة يكاد يكون مستحيلاً. وبُذِلَت جهودٌ منذ الحرب العالمية الأولى لجَعْل الاشتباك مع أهدافٍ برية وبحرية وجوية دقيقاً قدر الإمكان بيدَ أنّ التكنولوجيا كانت لا تزال متخلّفة. وجبَ على كلّ نظام سلاح أن يتّسم بالحركيّة، والقوة التدميرية، والمدى والدقّة. وبدأ تطوير «الذخائر الموجَّهة الفائقة الدقة» PGM مع محاولة لدمج جميع تلك المزايا في سلاحٍ واحد. إنّ عائلة الذخائر الموجَّهة الفائقة الدقة الحالية تملك كلّ هذه المزايا بل أكثر من ذلك.
ويمكن أن يبلغ مدى التبدد الطبيعي لقذيفة المدفعية نحو 175 متراً على 20 كيلومتراً و 273 متراً على مدى 30 كيلومتراً جرى تخفيضها إلى 50 متراً أو حتى أقل. ومن شأن هكذا دقّة أن توفّر الذخيرة وتُخفِّض الأضرار الجانبية وهي أكثر قوة تدميرية مع فترة استجابةٍ أقصر بكثير.
وبالعودة إلى الولايات المتحدة التي أعطت أولويّةً للضربات الدقيقة البعيدة المدى وكذلك أدركت أهمية الضربات الدقيقة القصيرة المدى بـ «قذائف صاروخية ومدفعية وهواوين وصواريخ غير موجهة بعيدة المدى» G-RAMM. وهناك العديد من تكنولوجيات التوجيه على غرار الليزر، ومستشعرات الأشعة تحت الحمراء، ورادرات الموجة الميلليمترية، ورادار الرصد الضوئي وتعيين المدى، و«رادار الرصد الضوئي وتحديد المدى» LADAR، إلخ. ويمكن تأمين التوجيه أيضاً عبر أنظمة «التوجيه بالقصور الذاتي» مدعومة بالأقمار الصناعية وتملك قدرات «تحديد موقع وملاحة وتوقيت» PNT على غرار «نظام تحديد الموقع العالمي» GPS في الولايات المتحدة. وثمة دول أخرى مثل روسيا والصين والهند والدول الأوروبية قد طوّرت أو هي قيد تطوير مثل هذه الأنظمة الساتلية.
كان الألمان سبّاقين في إنتاج «ذخائر موجَّهة فائقة الدقّة» PGM ذات تحكُّمٍ راديوي أو توجيهٍ سِلكي حينما هاجموا البارجة الإيطالية «روما» Rome في العام 1943. وبعد وقتٍ قصير، طوّر الحلفاء القذيفة الموجَّهة AZimuth Only (AZON) زنة 454 كيلوغراماً. وقد اختبرت الولايات المتحدة أيضاً العديد من أنظمة التوجيه المستندة إلى التلفاز، والرادار النصف نشط، والأشعة تحت الحمراء.
اختبر البريطانيون طائرات موجَّهة من بُعد مُتَحكَّم بها راديوياً مفخَّخة بالمتفجِّرات على غرار «لارينكس» Larynx. أمّا الولايات المتحدة فقد استخدمت تقنيات مماثلة مع منصّة «أوبرايشن أفروديت» Operation Aphrodite لكن بنجاحٍ قليل. وخلال الحرب الكورية، بدأت الولايات المتحدة مجدّداً باختبار قنبلة توجّه بنظام بصري إلكتروني جرى تجهيزها بمنظار تلفازي ومنظار ضوئي. وأعطت الكاميرا موقع الهدف ما ساعد على توجيه القنبلة عبر نظام المنظار إلى الهدف. ونظام «الصاروخ الموجَّه بالسلك المتعقَّب بصرياً المُطلَق من أنبوب» TOW (الصاروخ الموجه المضاد للدبابات) فهو مثالٌ آخر على استخدام السلك لنقل الإشارة لتوجيه الصاروخ نحو الهدف. وخيرُ مثالٍ على هذا النظام هما الصاروخان المضادان للدبابات «ميلان» Milan و«ماليوتكا» Malyutka. واستُخدِمَ السلك لنقل الإشارات لأنّ الراديو يمكن التشويش عليه بيدَ أنّ السلك يحدُّ من المدى.
إن ضوء الأشعة تحت الحمراء هو إشعاعٌ كهرومغناطيسي ذو أطوالٍ موجيّة أطول من مثيلاتها في الضوء المرئي وتضمّ معظم الإشعاعات الحرارية التي تبثُّها الأجسام التي تُقارب درجة حرارة الغرفة. وتولّد الأجسام الحرارة وتستبقيها وهي مرئية في الأطوال الموجية لضوء الأشعة تحت الحمراء عند مقارنتها بالأجسام في الخلفيّة المحيطة. ويُستخدم انبعاث الأشعة الحمراء هذا لتعقُّب الهدف وهو ما يُدعَى «التوجيه بالأشعة تحت الحمراء» أو «التوجيه الحراري» ويُستخدم للتوجيه الخامل للصواريخ. وتُدعَى مثل هذه الصواريخ أيضاً الصواريخ الباحثة عن الحرارة. أمّا الصواريخ الأصغر حجماً وخصوصاً أنظمة الدفاع الجوّي المحمولة فعادةً ما تستخدم أنظمة توجيه بالأشعة تحت الحمراء التي تملك تقنية «ارمِ وانسَ» fire-and-forget. ومثالٌ على التوجيه بالأشعة تحت الحمراء هي أنظمة صواريخ «ستينغر» Stinger الأميركية، و SA-18 Igla الروسية و FN-6 الصينية.
طُبِّقَ التوجيه الليزري في البدء على القنابل الجوّية لإحراز دقّة كبيرة حيث إنّ تلك القنابل كانت أرخص من استخدام صاروخٍ موجَّه وتمّ تطويرها بدايةً في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مطلع ستينيات القرن الماضي. وتستخدم بعضها توجيه الركوبة الليزرية، لكن معظمها يعمل بالتبييت الليزري نصف النشط. وفي هذه التقنية، ينبغي إضاءة الهدف بشُعاع ليزري ينعكس على الهدف ويعشقه (الرأس الباحث للصاروخ) حتى ضربه بدقّة. وقد استُخدِمَت قنبلة «بايفواي» Paveway الموجَّهة ليزرياً LGB الأميركية بفعالية في فيتنام. ويتواصل تطوير سلسلة Paveway وتحسينها من ناحية الفعالية والدقّة. وأحدث طراز في هذه السلسلة هو GBU-59 Enhanced Paveway II.
ومن بين الأمثلة الأخرى، «الصاروخ المضاد للدبّابات المبيَّت ليزرياً» LAHAT الإسرائيلي، والصاروخ الأميركي المضاد للدبابات الموجه ليزرياً AGM-114 Hellfire. وكذلك من بين الأمثلة الأخرى التي تعمل بالتوجيه الليزري «نظام سلاح القتل الدقي المتقدّم» APKWS من شركة «ب أيه إي سيستمز» BAE Systems وهو صاروخ موجَّهٌ ليزرياً قيد التطوير. ويستخدم الصاروخ في تقنية توجيه الركوبة الليزرية شُعاعاً ليزرياً يتّبعه توجيه نحو الهدف، وهذه التقنية اعتُمِدَت خلال تسعينيات القرن الماضي مع تطوير أجهزة التعيين الليزري المحمولة المنخفضة الكلفة، وهي تُستَخدم عموماً في الصواريخ المضادة للدبّابات وصواريخ الدفاع الجوّي القصيرة المدى على غرار الصاروخ SAM Starstreak البريطاني، و SAM RBS 70 السويدي، والصاروخ المضاد للدبابات MSS-1.2 البرازيلي ومثيله الروسي 9M119 Svir.
استُخدِمَت تكنولوجيا التوجيه الراداري النشط مبكراً في الأسلحة المضادة للسفن وأسلحة الهجوم السطحي (أي المطلقة من منصة بحرية)، لكنّها في وقتٍ لاحق أُدمِجَت في صواريخ الهجوم البرّي. ويمكن تعزيز الرؤوس الباحثة الرادارية بعناصر أخرى مثل «نظام تحديد الموقع العالمي» GPS البصري الإلكتروني، والرصد وتحديد المدى ليزرياً LADAR، إلخ. أما التطبيقات الأخرى لرادارت الموجة الميللمترية فهي رصد وتعريف العربات المدرّعة والأهداف العالية القيمة الأخرى والاشتباك معها حيث إنّها توفّرُ استبانة عالية جداً، وقدرة على العمل في جميع الأحوال الجوّية، ويصعُب التشويش عليها. وهي في الجيل الثالث من الصواريخ الموجَّهة المضادة للدبابات توفّر قدرة «إطباق قبل الإطلاق». ويستخدم الصاروخ الهندي المماثل ATGM Nag أيضاً رأساً باحثاً بعمل برادار الموجة الميلليمترية وهو قيد التطوير. أمّا صاروخ AGM-114 Hellfire من «لوكهيد مارتن» Lockheed Martin فهو صاروخ جو-سطح موجَّه يستخدم رادار الموجة الميلليمترية كرأسٍ باحثٍ له.
أظهرت «حرب الخليج» مدى أهمية الذخائر الموجّهة الفائقة الدقّة لكنّ ممّا حَدَّ من توظيفها هو الانقشاعية الضعيفة. وجرى التغلُّب على هذه المشكلة بالأسلحة الموجَّهة ساتلياً التي تتستخدم تقنيةُ «نظام تحديد الموقع العالمي» GPS وهي أنظمة تعمل في جميع الأحوال الجوّية. وبما أنّ نظام GPS يمكن التشويش عليه، زُوِّدَت هذه الأسلحة بقدرة الملاحة بالقصور الذاتي كاحتياط توجيهي. واستخدمت الولايات المتحدة طقم «ذخيرة الهجوم المباشر المشتركة» JDAM من أجل تحويل القنابل غير الموجَّهة الغبية إلى أخرى موجَّهة في جميع الأحوال الجوّية.
شكلت قذيفة M712 Copperhead أول قذيفة ذكية جرى تطويرها للمدفعية يمكن قياس دقّتها بسنتيمترات قليلة. وهي تُطلَق من مدفعٍ عيار 155 ملم وتُوجَّه بمُعيِّنٍ ليزري نحو الهدف. وتملك قدرة مضادة للدبابات، وبفضل دقّتها العالية فهي قادرة على تدمير أهداف أصغر حجماً على أمداء تزيد عن ستة كيلومترات. فدقّتها أشبه بسلاح رمي مباشر. وقد استُخدِمَت بنجاح لتدمير مواقع مراقبة وحراسة، ومنشآت رادارية خلال عملية «عاصفة الصحراء». وهي أثقل وأطول من قذيفة المدفعية المعيارية إذ إنّها تشتمل أيضاً على قسمٍ للتوجيه والتحكُّم يضمُّ الرأس الباحث وإلكترونيات.
قذيفة Krasnopol هي قذيفة مدفعية روسية عيار 152/155 ملم مستقرّة بزعانف وتشتمل كما M712 Copperhead على توجيهٍ ليزري نصف أوتوماتيكي. ويتعيّن إضاءة الهدف ليزرياً من أجل توجيه القذيفة. وهي فعّالة جداً ضدّ الدبّابات، ومرابض المدفعية أو أية أهداف صلبة صغيرة.
إنّه برنامج للجيش الأميركي لتطوير «طقم توجيه دقيق» PGK للقذائف المدفعية عيار 155 ملم. وسيعمل هذا الطقم كرأس باحث، يُوفّر توجيهاً بنظام GPS مع جُنيحات تحكُّم لتصحيح مسرى طيران القذيفة. وهو مثبت في أنف القذيفة كصاعقٍ، ويشبه طقم JDAM المركب في الذيل. ويتراوح الخطأ الدائري المحتمل بين 30 و 50 متراً على مدى 50 كيلومتراً، وهو أقل من القذيفة غير الموجهة التي يبلغ خطأها الدائري نحو 260 متراً
إنّها قذيفة هاون موجَّهة عيار 120 ملم تُوجَّهُ بتكنولوجيا الرأس الباحث الليزري نصف النشط ذي الفتحات الموزَّعة. ويتألف النظام أيضاً من طقم توجيه بنظام GPS يشتمل على نظامين فرعيين في الأنف والذيل لأجل مناورة القنبلة. ويبلغ «الخطأ الدائري المحتمل» CEP لديها متراً واحداً وقد استُخدِمَت في أفغانستان.
قذيفة «إكسكاليبر» Excalibur هي قذيفة مدفعية موجَّهة فائقة الدقة عيار 155 ملم طوّرتها كلٌّ من «رايثيون لأنظمة الصواريخ» Raytheon Missile Systems و«ب أيه إي سيستمز بوفورز» BAE Systems Bofors. وهي توفّر بفضل مداها المُمَدَّد وتوجيه الـ GPS قدرة رمي دقيٍ صائبٍ من الطلقة الأولى. ويمكن إطلاقها من مدفعي «الهاوتزر» Howitzer لدى الجيش الأميركي - Paladin و LW 155 وكذلك من مدفع «أرشر» Archerالسويدي. ويتراوح مدى قذيفة Excalibur بين 40 و 57 كيلومتراً اعتماداً على تصميم المدفع، مع «خطأ دائري محتمل» CEP يصل إلى 25 متراً. ويُزعَم أنّ طلقة واحدة من Excalibur لها تأثير تدميري يوازي بين 10 و 50 قذيفة تقليدية من ناحية الفعالية. وقد استُخدِمَت بكثرة في العراق. وهناك طراز محسن من Excalibur تحت مسمى Excalibur 1b طورته شركة Raytheon يوفر مدى أطول ودقة أفضل وأضرار جانبية أقل وتصل دقته إلى ± مترين.
طوّرت شركة Lockheed Martin راجمة صواريخ موجَّهة جديدة ذا مدى مُمَدَّد يزيد على 70 كيلومتراً، وهي قيد الخدمة حالياً لدى العديد من الدول. ويشتمل صاروخ GMLRS XM30 على توليفة من نظام GPS ونظام توجيه بالقصور الذاتي للتوجيه مع زعانف صغيرة على أنف الصاروخ لتعزيز دقّته. وبدأ الجيش الأميركي باستخدام صواريخ GMLRS في العراق في أيلول/سبتمبر العام 2005.
وأثبتَ الرأس الحربي زنة 90 كيلوغراماً صغراً بما يكفي لاستخدام السلاح في الأماكن الآهلة ضدّ مبانٍ فرديّة من دون التسبُّب بأضرار جانبية. وتُشير التحاليل الأوّلية إلى أنّ نحو 670 صاروخ GMLRS قد تمّ رميها بدقة 98.6 بالمئة.
لطالما كانت الولايات المتحدة في الطليعة في «الذخائر الموجَّهة الفائقة الدقّة» PGM وهي تعمل باستمرار على تحسين هذه التكنولوجيا. وفي ما يلي بعض الأمثلة:
أنظمة الملاحة المتكيِّفة ANS: إنّ نظام GPS هو في غاية الأهمية لـ «تحديد الموقع والملاحة والتوقيت» PNT بالنسبة إلى الجيوش، بيدَ أنّ هذا النظام يمكن إغلاقه بسهولة بالتشويش، وداخل المباني، وفي الغابات الكثيفة، وتحت الماء أو تحت الأرض. وهنا تأتي أنظمة ANS لتوفير قدرة PNT بجودة نظام GPS للمستخدمين العسكريين حتى في البيئات العملانية الصعبة من خلال «أنظمة الملاحة الدقيقة بالقصور الذاتي» PINS. و«تحديد الموقع والملاحة بجميع المصادر» ASPN. وهناك أيضاً أسلحة الطاقة العالية الموجَّهة، وهي ذخائر مستقبلية موجَّهة بدقّة ، وثمة جهود لتطويرها في العديد من الدول.