تحوّل كبير في الدفاع الألماني: إضافة 100 مليار يورو للميزانية الدفاعية
كانت ألمانيا البلد الأول الذي يُعلِن أنه سيزيد إنفاقه الدفاعي عقب الحرب في أوكرانيا. وبعد سنوات من الإنفاق المنخفض على الدفاع، يُمثّل هذا الإعلان حدثاً تاريخياً. لكن بعد مضي عام، ما هو الواقع الفعلي على الأرض؟ هذا ما سلط عليه الضوء المحرر العسكري يواكيم شرانزهوفر (Joachim Schranzhofer)، الخبير الألماني ومدير وحدة الاتصالات والتسويق في شركة «هنسولدت» (HENSOLDT)، الرائدة في الصناعة الدفاعية الألمانية والمزودة للمستشعرات الهادفة للحماية والاستطلاع والمراقبة.
عندما قامت روسيا بغزو أوكرانيا فجر الـ 24 من شباط/فبراير العام 2022، كان تأثير وتداعيات هذه الحرب واضحة للعيان. وجاء الخطاب التاريخي للمستشار الألماني أولاف شولتز Olaf Scholz بعد ثلاثة أيام فحسب من هذا الغزو والذي أعلن فيه عن تمويل خاص بقيمة 100 مليار يورو لتجهيز الجيش الألماني تجهيزاً وافياً والالتزام بإنفاق دائم بنسبة %2 من «الناتج القومي الإجمالي» (GDP) على الدفاع، ليُظهر بوضوح نقطة تحوُّل كبيرة في الدفاع، لم نشهد مثلها منذ الحرب الباردة.
وقد لاقى إعلان شولتز ردود فعل واسعة النطاق، من رفضٍ تام لدى اليسار السياسي إلى ابتهاج ودهشة لدى أولئك الذين كانوا يدعون منذ عقود إلى مستويات أعلى من الإنفاق الدفاعي في ألمانيا.
ومن المهم التذكير بأنّ مكانة وعقيدة القوات المسلحة والصناعة الدفاعية في ألمانيا تختلفان عن مثيلاتها لدى الدول الأخرى في أوروبا والولايات المتحدة.
وقد اعتمدت ألمانيا أكثر من أي دولة أوروبية أخرى، على «مخصصات السلام» [التي تلي الحرب وتلحظ انخفاضاً في الإنفاق الدفاعي وزخماً للاقتصاد] بعد نهاية «الحرب الباردة». وغالباً ما أشار السياسيون الألمان إلى مسؤولية البلاد بعد «الحرب العالمية الثانية» وكانوا سعداء، على الأقل، بتلزيم الدفاع عن البلاد إلى الحلفاء في حلف شمالي الأطلسي «الناتو» NATO، وركّزوا في المقابل على النجاح الاقتصادي.
وبعدما عاش المواطنون في ألمانيا بجو من السلام والازدهار على مدى عقود عديدة، أخذ العديد منهم يؤمن بأنّ «الحرب لم تعد خياراً لمواصلة السياسة بوسائل أخرى»، كما قال الجنرال فون كلاوسفيتز Von Clausewitz. ونتيجة لذلك، جرى التخلي عن مفهوم الردع الموثوق في العديد من الدوائر السياسية.
وكانت النتيجة تراجع مكانة القوات المسلحة والصناعة الدفاعية في المجتمع. وفيما خُفضت الميزانيات أكثر فأكثر، وطُرحت مفاهيم تصورية مثل «التوافرية المرنة» للمعدات. ويعني ذلك أنّ العديد من وحدات القوات المسلحة قد جهزت فحسب بنصف ما كانت تحتاج إليه حقاً. وعندما كانت تلك القوات تدخل في تمارين عسكرية، تضطر إلى اقتراض باقي عتادها من وحدات أخرى. يبدو ذلك ضرباً من الجنون، أليس كذلك؟
وبينما أدى إلحاق «شبه جزيرة القرم» «كريميا» في العام 2014 والنزاع الدائر في إقليم «دونباس» الأوكراني إلى بعض الزيادات في الميزانية، فإن المفهوم الإجمالي للأمن والدفاع والردع في المجتمع كان لا يزال سلبياً إلى حد كبير. وهذا ما أفضى، على سبيل المثال، إلى مبادرات مثل «مشاريع الاتحاد الأوروبي للتصنيف» [لاستبيان ما هي المشاريع المستدامة الصديقة للبيئة]، في حين أوصت مجموعة عمل تتألف أساساً من «منظمات غير حكومية» بتصنيف الصناعة الألمانية على أنها حيادية أو حتى سلبية من ناحية الاستدامة. وقد أحدث الهجوم الروسي على أوكرانيا موجات صادمة في المجتمع الألماني. إذ إنّ التهديد فجأةً لم يعد نظرياً أو بعيداً، بل حقيقياً. وقد شاهد العالم الصور المرعبة على وسائل الإعلام. فقد وصلت قطارات تعجّ باللاجئين إلى برلين كل يوم وأدرك العديد من المواطنين أن المسافة بين كييف وبرلين هي ذاتها المسافة بين برلين وروما.
وأرى [أي الكاتب يواكيم شرانزهوف] أنها كانت صدمة شافية تقريباً لدى الكثيرين، ونتيجة لذلك توضّح بجلاء أهداف ما تقوم به القوات المسلحة الألمانية ومسؤولية الصناعة الدفاعية لتجهيز تلك القوات تجهيزاً مناسباً: إنّ حريتنا، وديموقراطياتنا الليبرالية وطريقة عيشنا تستحق الدفاع عنها. ولهذا السبب نحتاج إلى قوات مسلحة، ونحتاج إلى تجهيزها تجهيزاً تاماً!
وبعد تسعة أشهر على خطاب المستشار شولتز، بقيت الميزانية الخاصة المقدرة بنحو 100 مليار يورو، التي أعلن عنها مقيدة بالقانون وبموافقة البرلمان. وعلى خط موازٍ، استحدثت هيئة أركان التخطيط في «القوات المسلحة الألمانية» قائمة بمشاريع المشتريات التي ستُموَّل من أموال هذه الميزانية المنشودة، استناداً إلى الاحتياجات الأكثر إلحاحاً لدى تلك القوات.
ولا عجب من أنّ تلك الميزانية غير كافية لتغطية جميع المشاريع المندرجة في القائمة وقد نشأ تجاذب سياسي يقتضي التوفيق بين العديد من المصالح. فعلى سبيل المثال، هناك منافسة إقليمية قوية، من الناحيتَين السياسية والصناعية، بين شمال ألمانيا، حيث تقع أحواض بناء السفن تقليدياً، وجنوب ألمانيا حيث تنشط الصناعة الجوفضائية بقوة. ويتعين على الحكومة أن تجد توازناً في ما بينها هناك.
وفي الوقت ذاته، ثمة انتقاد متزايد من أن الاتجاه الراهن لشراء «العتاد المتوافر» بدلاً من «العتاد المحلي» سيدفع ألمانيا نحو الاعتماد بشكل أكبر على الأنظمة التي تُزوّدها الولايات المتحدة مثل المقاتلات النفاثة F-35، وطوافات CH-47، فيما تترك فحسب حُزَم العمل الأصغر نطاقاً والأقل أهمية في صناعة الدفاع الوطنية.
كما أن التضخم المرتفع يُقلّص من القوة الشرائية لميزانية الـ 100 مليار يورو وبات بالإمكان سماع تلك الأصوات الأولى التي نادت بزيادة أخرى في الميزانية الدفاعية. وجاء ذلك بعد أيام قليلة من قرار الحكومة الألمانية الإنفاق حتى 200 مليار يورو من أجل لجم أسعار الطاقة وضمان أمن إمدادات الطاقة على مدى الآتي من الأشهر والسنين.
وبينما نادى الكثيرون مطلع هذا العام بالحد من البيروقراطية التي تعوق المشتريات الدفاعية في ألمانيا، يبدو أن حس الإلحاح الذي كان ماثلاً في ربيع العام الفائت قد فَتَرَ إلى حدٍّ ما وعاد إلى العمليات المعقدة والمراحل المتعددة للمصادقة من جديد. وواقع أنّ الجيش الأوكراني يُقاتل بضراوة، وتمكّن إلى حد كبير من إيقاف الاجتياح الروسي، قد يُشكّل عاملاً مساهماً في تحقيق ذلك، أي بالعودة إلى الحماسة السابقة.
ولعل البعض يقول إن الدافع الأوّلي للارتفاع الكبير في المشتريات الدفاعية الألمانية قد ولّى. وربما يوافق على ذلك عند النظر في تطوُّر أسعار أسهم بعض الشركات الدفاعية المدرجة في البورصة. وكالعادة هناك بعض المبالغات، لكن عند التطلع إلى الصورة الكبيرة تبدو هناك فرص أكبر من التحديات.
ولا ريب أن الميزانية الخاصة بقيمة 100 مليار يورو والالتزام بإنفاق دفاعي مستدام بنسبة %2 من «الناتج القومي الإجمالي» (GDP) على الدفاع في ألمانيا ستثمر بدفع كبير في قدرات القوات المسلحة الألمانية.
وستتّبع هذه الخطى دول أخرى في أوروبا، وربما أيضاً في الشرق الأوسط ودول «منطقة آسيا - المحيط الهادئ» APAC ]وتضم شرق آسيا، وجنوب شرق آسيا، والدول المطلّة على المحيط الهادئ[، وستستثمر في تحديث قدرات قواتها المسلحة. لقد أظهرت الحرب في أوكرانيا بطريقة دراماتيكية أنّ المستشعرات، وقدرات «الاستخبار والمراقبة والاستطلاع» (ISR)، والحماية الذاتية، فضلاً عن قدرات «الحرب الإلكترونية» (EW) و«استخبارات» المصدر المفتوح» (OSINT) إنما هي أدوات حاسمة في مضاعفة القوة للسيطرة على النزاعات المستقبلية. وهناك قناعة في الساحة الدفاعية بأن الشركات التي تنشط في هذه الحقول ستشهد نمواً بعيدَ الأجل ومستداماً على مدى العقد المقبل وفي ما يتعداه.