عقود من عدم الاستقرار في منطقة البحر الأسود
شهدت منطقة البحر الأسود، ذات الأهمية المحورية في الأمن الأوروبي وأجندة حلف شمال الأطلسي «الناتو» NATO، عقوداً من النزاعات والاضطرابات، التي اتّسمت بالتنافس بين خصومٍ تاريخيين، وكياناتٍ مناطقية غير معترف بها، وتهديدات أمنية معقّدة. وفيما لعبة القوى لا تزال تستمر فصولاً، فإنّ حلف الناتو والاتحاد الأوروبي على حدّ سواء يُطوران استراتيجيات جديدة للتصدي لأدوات روسيا الهجومية، العسكرية منها وغير العسكرية. وهذا ما سلّطت الضوء عليه الباحثة الدولية الدكتورة أندريا ستويان كاراديلي في نشرة (European Security and Defence).
تحد البحر الأسود ست دول (أوكرانيا إلى الشمال، روسيا وجورجيا إلى الشرق، وتركيا إلى الجنوب، وبلغاريا ورومانيا إلى الغرب)، من بينها ثلاث دول فقط أعضاء في حلف «الناتو» واثنتان فحسب عضوان في الاتحاد الأوروبي. وانبثق البحر الأسود، على تقاطع أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، كطريق حيوي لنقل الطاقة إلى أوروبا. وفي ظل الديموقراطية المساندة من جهة الغرب، والنشاط المالي الصيني المحموم من الشرق، والنزاع العسكري الروسي المهدد من الشمال، وعدم الاستقرار المتأتي من الجنوب، تعتبر منطقة البحر الأسود بقعة ساخنة محتملة. وتربعت هذه المنطقة في صدارة الأجندة الاستراتيجية العالمية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين فحسب بعد أحداثٍ رئيسية عديدة: انضمام بلغاريا ورومانيا إلى حلف «الناتو» والاتحاد الأوروبي في العام 2007، والحرب الروسية-الجورجية في العام 2008، والثورة الملونة في أوكرانيا العام 2013، والغزو الروسي لمنطقة كريميا (أو شبه جزيرة القرم) في العام 2014، والانتفاضة الأخيرة في بيلاروسيا، وأخيراً نزاع ناغورنو-كاراباخ في العام 2021 [فضلاً عن الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/فبراير العام 2022].
وفيما تنطوي المنطقة على أكبر قدرٍ ممكنٍ من الفرص لمزيدٍ من التعاون والتنمية، فإنّ البحر الأسود لا يزال يغرق بلعبة القوى الخطرة ذاتها لفاعلين عالميين وإقليميين. وتهدف هذه المقالة، آخذة في عين الاعتبار التحديات العالمية لأوقاتنا الراهنة، إلى تقديم تقييم للديناميات المتواصلة حول البحر الأسود، فضلاً عن منظور تحليلي عام للمنطقة [خصوصاً بعد التطورات المتلاحقة والتداعيات الإقليمية والعالمية للغزو الروسي الأخير].
في نهاية شهر أيلول/سبتمبر من العام 2021، التقى الرئيسان الروسي والتركي للمرّة الأولى شخصياً بعد تفشي فيروس «كوفيد-19». وجرى اللقاء في مدينة سوتشي على البحر الأسود، «عاصمة الأمر الواقع»، والموقع المفضل للرئيس بوتين لعقد قمم ثنائية الجانب – وهي تشكّل رمزاً لحفاظ روسيا على الإرث القديم للأمير غريغوري بوتيمكين (Gregory Potemkin) على مدى 250 عاماً. وناقش الرئيسان ودياً أمام وسائل الإعلام مسألة تطوير الجرعات المعززة للقاح «كوفيد-19»، وتفوّق اللقاح الروسي «سبوتنيك-V» (Sputnik-V). لكنّ الرئيسين أردوغان وبوتين ناقشا خلف الأبواب المغلقة أو وراء الكواليس تطور تعاونهما الثنائي، وتناولا مواضيع مهمّة مثل التجارة والتعاون في الصناعة الدفاعية، فضلاً عن مسائل إقليمية ومشاريع مستقبلية مشتركة بين البلدين.
ومن بين التفاصيل التي تسرّبت إلى العامة، تبين أن المعلومات الأكثر أهمية بالنسبة إلى أمن البحر الأسود جاءت من الإعلان المشترك بأن روسيا وتركيا ستتعاونان في تطوير الغواصات وتكنولوجيات المحركات النفاثة الجوية. ويتعين أن يتضح بعد ما إذا كان بالإمكان اعتبار ذلك مماثلاً في أهميته لبرامج التعاون العسكرية السابقة بين تركيا وروسيا، والأسباب الفعلية والاستراتيجيات الكامنة خلف هذه المشاريع الرسمية. ومهما يكن من أمر، فإنّ لعبة تركيا الخطرة مع روسيا تهدد أمن واستقرار منطقة البحر الأسود، في حين أنّ جميع الفاعلين الآخرين إما يراقبون من بُعد وإما يحترزون في كل خطوة يقدمون عليها.
لطالما اتسمت ديناميات البحر الأسود بالتوتر، مع جيران يحتسبون كل خطوة فيما يتحسبون حتى من مخاطر كل مصافحة باليد. وتبقى روسيا «الفتى المتنمر في الصف»، في سعيها لفرض مكانتها عبر تحركات عسكرية وغير عسكرية مدروسة تهدد أمن واستقرار المنطقة. وترى روسيا في منطقة البحر الأسود على نطاق واسع عنصراً أساسياً في استراتيجيتها الجيو-اقتصادية، هادفة إلى بسط القوة والنفوذ الروسيين في منطقة الشرق الأوسط، وحماية روابطها الاقتصادية والتجارية مع أسواق أوروبية أساسية، وجعل جنوب أوروبا أكثر اعتماداً على نفط وغاز روسيا. ويشكل البحر الأسود أيضاً منطقة فاصلة أو عازلة أمنياً بالنسبة إلى موسكو لحماية حدودها في وجه أي نقاط ضعف قابلة للاختراق في الجنوب. ومع تطوير استراتيجية وافية، يمكن لروسيا، باستخدامها للبحر الأسود كنقطة انطلاق، أن تنقل قوتها إلى الشرق الأوسط، والبلقان، والبحر الأبيض المتوسط - وتعزز إعادة انبثاقها كقوة عظمى. ومما يصعب تصديقه أن موسكو عازمة على استخدام البحر الأسود لتعزيز إمكانية الدخول على نحو أكبر إلى المناطق التي تعتبر واقعة تحت هيمنة حلف «الناتو». إن العلاقات المتطورة مع تركيا، التي نجم عنها ابتعاد أنقرة عن الغرب، تلائم تماماً خطط بوتين لمستقبل المنطقة، التي تأخذ في الحسبان نقاط الضعف الحالية فيها لكل من «الناتو» والاتحاد الأوروبي.
في المقابل، لطالما كانت علاقات تركيا مع روسيا أبعد من أن تكون مثالية، ما أدى عبر السنين إلى العديد من المواجهات المباشرة وغير المباشرة والمنافسة العدائية. وفيما لا تثق أنقرة تماماً بالتزام موسكو بمبادراتهما المشتركة، فإنّها تهدف إلى أن تصبح قوة إقليمية هي أيضاً. وفي هذا الخصوص، يعتبر دورها كـ «بيضة قبان» لإرساء التوازن في منطقة البحر الأسود، وغيرها، إحدى الاستراتيجيات التي طورتها تركيا لإحداث توازن بين الإصرار الأميركي والانبعاث الروسي في محيطها. لكن نضالها هذا يمكن أن يتحول بسهولة إلى انكشاف أو ضعف متزايد أمام الطرفين والمخاطرة بمزيد من الهشاشة في العديد من النواحي.
وفيما تُبدي أنقرة معارضة شديدة لوجود أطلسي كبير في المنطقة مؤكدة قدرتها في الحفاظ على الأمن البحري في البحر الأسود بالتعاون مع دول أخرى شريكة ومنتمية إلى حلف «الناتو»، فضلاً عن روسيا، فإنها تُسهم عن غير قصد في خطوات موسكو لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة بعد إلحاق كريميا. وعلاوة على ذلك، أقدمت أنقرة لأجل التوازن الإقليمي ومحاولة تجنب مزيد من المواجهة مع روسيا، على رفض الفرصة المؤاتية لإعادة وجودها البحري المهيمن في البحر الأسود ولم تنضم إلى عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا. في غضون ذلك، تمكنت تركيا وروسيا من التوصل إلى اتفاقيات مشتركة في العديد من النزاعات المزمنة والعالقة من مثل ناغورنو-كاراباخ. وفي هذه الحالة، لطالما دعمت تركيا البلد الشقيق - أذربيجان - ضد أرمينيا وقد وفرت التدريب العسكري والأسلحة إلى باكو. في الجهة المقابلة، استفادت أرمينيا من الدعم الروسي في ظل الاتفاقية الدفاعية مع موسكو ووجود قاعدة عسكرية روسية وحرس حدود روس. وفيما جرى النزاع الرئيسي في موقع حساس بالنسبة إلى أمن الطاقة لدى أوروبا وتركيا، فقد أثبتت كل من روسيا وتركيا مقدرتهما على الخروج باتفاقية مؤقتة في ما بينهما، لتنتهي الحرب مؤقتاً، ولو ليس النزاع ككل. وأظهرت إدارة روسيا وتركيا للأزمة مدى وعي الطرفين من مخاطر التصعيد التي تمثلها تلك النزاعات المزمنة واحتمال إلحاق الخطر بمناطق أخرى ذات مصالح مشتركة للطرفين.
وباختصار، على الرغم من أن تركيا لا تمتثل دائماً لسياسات الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في البحر الأسود، وتؤدي لعبة خطرة جداً سيراً على حبل رفيع فوق مستنقع خطر، فإنها في الحقيقة انبثقت كأداة لحفظ التوازن مع روسيا. لكن ما يثار الجدل حوله هو إلى متى بإمكان الحكومة التركية مقاومة الضغوط الآتية من جهات مختلفة، بما يجعل من الصعب عليها مواصلة الحفاظ على ذلك التوازن.
اشتهرت أوكرانيا، الجار الآخر في البحر الأسود، في الماضي بمدى «نضجها البحري»، وبكونها ساحة اقتصاد بحري متنوّع يتألف من النقل عبر الأنهر، وبناء السفن، وصناعة الغاز والنفط. لكن في السنوات الـ 25 الأخيرة شهدت تراجعاً متواصلاً في قوتها البحرية ومقدرتها على الدخول إلى البحر الأسود المقيدة فعلاً بالاحتلال المتواصل لكريميا وسعي روسيا المنهجي إلى التضييق على الملاحة البحرية الأوكرانية في بحر أزوف منذ العام 2018. وباتت موانئ أوديسا، وميكولايف، وخيرسون الشريان الاقتصادي لأوكرانيا إلى الأسواق الاقتصادية. وعلاوة على ذلك، تواصل روسيا تهديد الحركة الملاحية البحرية وضرب اقتصاد البلاد [فضلاً عن الضربات العسكرية المتواصلة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/فبراير من هذا العام]. وفيما تحظى العاصمة الأوكرانية كييف بدعم الغرب وتركيا، فإنّ التهديدات من قِبل الجانب الروسي تتعاظم والوضع يتطلّب التعامل معه بحذر شديد [ويتطلع العالم إلى مصير الحرب الروسية على مدنها ومدى صمودها وما إذا كان هناك حل دولي ربما ينهي الحرب ولكن لا يبدد التوتر].
لطالما شهدت جورجيا، على غرار أوكرانيا، سياسات عدائية روسية واستخدام موسكو للقوة العسكرية وأدوات الحرب الهجينة لمواصلة تحدي أي حليف للغرب في البحر الأسود. وكان «سلك الاستخبارات العسكرية الروسية» (GRU) قد نفّذ هجوماً سيبرانياً عنيفاً على خوادم الحكومة الجورجية، كمثال على الاعتداء الروسي الذي تضمّن العديد من أفعال الافتراء الممنهج ضدها على غرار المعلومات المضللة، والهجمات السيبرانية، وفرض الحظر والحصار من ناحية الطاقة، والنشاطات الاستخبارية والعسكرية الخفية. والهدف الرئيسي لهذه الأفعال هو الضغط على العاصمة الجورجية تبليسي كي تعادي الغرب. وفيما يُستهدف التعاون الأطلسي-الجورجي، بات تعزيز قدرات جورجيا في «الدفاع الهجين» أكثر أهمية من ذي قبل. وقد نشرت روسيا منذ احتلالها للأراضي الجورجية على نحو غير شرعي جنوداً في أبخازيا، التي تقع على الساحل الشرقي للبحر الأسود. وإضافةً إلى ذلك، تعزز موسكو من الوجود العسكري لقواتها في شبه جزيرة القُرم، فيما تعكس القدرات الجوية والبحرية المحسنة نوايا روسيا الواضحة في استحداث منطقة «منع الدخول/ المنطقة المحرّمة» (A2/AD) في البحر الأسود. إن أفعال موسكو هي أبعد ما تكون عن الاستراتيجيات التقليدية في الماضي، إذ إنّ الكرملين يضغط بعدوانيته عبر كل قناة حيوية.
تعتبر رومانيا وبلغاريا، الدولتان العضوان في الاتحاد الأوروبي، من الديموقراطيات ما بعد الشيوعية، وانضمّتا إلى حلف «الناتو» في العام 2004 مع الموجة الثانية من التوسع الأطلسي شرقاً عقب الحرب الباردة. وبسبب المظالم التاريخية التي تشكو منها تجاه روسيا، كانت مواقف رومانيا أكثر تشدداً وقد ناشدت الحلف الأطلسي كي يظهر استجابة أقوى، كما أصبحت البلد الأول الذي يستضيف نظام الصواريخ سطح-جو «باتريوت» Patriot في منطقة البحر الأسود. كما أنها تستقبل عمليات نشر متناوبة على نحو منتظم للقوات الأطلسية. ونظمت في آذار/مارس العام 2021 المناورات العسكرية الأطلسية المتعددة الجنسيات Sea Shield 21 . وثبُت التزام رومانيا بتقديم الدعم الكامل للأطلسي ضد الاستراتيجية العدوانية الروسية منذ انضمام البلاد إلى هذا الحلف.
وفي المقابل، أبدت بلغاريا حذراً شديداً تجاه روسيا، إذ إن موسكو منذ أمد بعيد استغلت اعتماد البلغار على التكنولوجيا العسكرية الروسية القديمة واخترقت بشكل روتيني القطاع الدفاعي البلغاري، الذي أثبت أنه ليس فقط نقطة ضعف وطنية بل إنه يعكس أيضاً ضعفاً للحلف الأطلسي. وفي آذار/مارس العام 2021، اتُهم خمسة مسؤولين دفاعيين بلغاريين كبار، حاليين وسابقين، بتهمة بيع معلومات أطلسية مصنفة سرية إلى روسيا. وإضافة إلى ذلك، لا تزال بلغاريا، في إطار الاستراتيجية الروسية للحرب اللامتماثلة، هدفاً أساسياً لنشاط «هجين» من قِبل الكرملين بسبب اعتمادها على الطاقة الروسية والتأثير الروسي القوي في حياتها السياسية. وقد اتخذت بلغاريا خطوات كبيرة ضد الاستراتيجيات العدوانية الروسية، عبر تحديث استراتيجياتها من ناحية الأمن القومي والدفاع، وتدشين «مركز التنسيق البحري» (Maritime Coordination Centre) في مدينة فارنا. ومع ذلك لا يزال ثمة طريق طويل أمام بلغاريا لكي تُرسّخ مناعتها، وتعزيز دعم الأعضاء الآخرين والشركاء للحد من نقاط الضعف الأطلسية في المنطقة.
إنّ البحر الأسود، تماماً كما هو الوضع في بحر البلطيق، يفتقد إلى قائد مشترك للسلم والحرب كي ينخرط بقوة في مواجهة التحديات الروسية في المنطقة. وليس هناك أيضاً مقار مشتركة إقليمية ذات موقع وتركيز مناسبَين سواء للاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو. وينبغي على الحلف أن يستحدث «قيادة حليفة عليا» (SAC) لكلا المنطقتين - SACBaltic و SACBlack Sea. وينبغي على نحو مماثل اتخاذ خطوات جديدة لتعزيز الوجود الأطلسي على الأرض بما يدعم مقدرة الاتحاد الأوروبي على زيادة الأمن والاستقرار عند حدوده الشرقية. وفيما يبقى الاتحاد الأوروبي مناصراً قوياً للجيوش الأطلسية ووجودها البحري في المنطقة، فإنه يتعين عليه أن يكون أكثر نشاطاً في المنطقة وأن يتعاون مع حلف «الناتو» في مبادرات لمضاعفة مشاركة المعلومات من ناحية الاستخبار والمراقبة، والتعاون الدفاعي والعملاني المشترك، ودعم الحركية العسكرية، ما يستحدث استراتيجية متعددة المستويات للتصدي للعدوان الروسي المتواصل. وأخيراً وليس آخراً، يملك الاتحاد الأوروبي الإمكانيات، إذا ما مُنح الفرصة، للانخراط في دور فعال في التعاون الاقتصادي بالمنطقة ما يعزز أكثر فأكثر من الاستقرار الأمني.
واليوم، أكثر من أي وقت مضى، تحتاج الخاصرة الجنوبية-الشرقية لحلف «الناتو» إلى مضاعفة قوتها وعدم إظهار أي نقطة ضعف يمكن اختراقها في أية ناحية. ولا يمكن تحقيق مثل هذا الهدف إلا بتعزيز التعاون بين أعضاء الحلف - رومانيا، وبلغاريا، وتركيا - والشركاء الأقوى في المنطقة وأبرزهما أوكرانيا وجورجيا. وفيما يُدرك الحلف «استراتيجية التنمر اللامتماثلة» الروسية في المنطقة، فينبغي عليه أن يعي نقاط قوته وإمكانياته الهائلة لتحويل البحر الأسود إلى منطقة أفضل حالاً، وأكثر استقراراً وأمناً.