مستقبل البطاريات العسكرية المتقدّمة: ليثيوم أم صوديوم أم غرافين وتنغستن؟
تجري في الدوائر الدفاعية حالياً نقاشات حول مدى توافر الطاقة الكهربائية للتطبيقات العسكرية، لكن ما الذي يحدث من الناحية التقنية حقاً خلف الكواليس؟ إنه تساؤل يحاول ستيفن دبليو ميلر الإجابة عنه تقنياً في هذه المقالة الشيِّقة.
تبقى الطاقة على الدوام مطلباً حساساً حاسماً لتنفيذ عمليات عسكرية في الميدان الحديث، وقد تضاعف الطلب على الطاقة الكهربائية مرّات عدة على مدى العقود الأخيرة. وأصبح ضمان طاقة كهربائية موثوقة وكافية في بيئة تكتيكية، تحدّياً رئيسياً. فالقدرة على تخزين وتوفير الطاقة تُشكّل حالياً عائقاً كبيراً أمام التطبيق العملي لعدد من التكنولوجيات المتقدمة في الميدان العسكري. وتتّسم تكنولوجيات بطاريات التخزين الحالية بقدرات محدودة بما لا يُلبّي تلك الاحتياجات المتنامية للطاقة.
ونتيجة لذلك، ثمة عدد من المبادرات يجري التحقّق من جدواها العملية. وتستطلع تلك المبادرات مقارباتٍ بديلة تَعِد بتحقيق زيادة كبيرة في الطاقة التي يمكن توفيرها، فضلاً عن القدرة للقيام بذلك في ظل أحوال جوّية وبيئية عاتية، تلك التي تُواجه في العمليات العسكرية. ومن شأن تلبية هذه الاحتياجات بنجاح أن تُزيل عقبة رئيسية تملي إلى وتيرة تطبيق عدد من التكنولوجيات الواعدة.
وفي المضمار العسكري، ثمة متطلّبات تراوح بين قدرات دفع بديلة، واتصالات وإلكترونيات، و«استخبار ومراقبة واستطلاع» (ISR)، وتطبيقات أخرى محتملة.
ومن بين متطلّبات الطاقة للعربات التكتيكية، الأبراج المأهولة بطاقم وتلك غير المأهولة، ومنصات إطلاق صواريخ، ورادارات، وأنظمة حماية نشطة، وأجهزة تشويش، وأنظمة «قيادة وسيطرة واتصالات» (C3)، وإدراك الوعي المحيط، وتكييف الهواء من بين متطلّبات أخرى. ولا تنطبق هذه المتطلّبات للطاقة العالية فحسب عندما تكون العربة متنقّلة أو خلال توقفها لفترات قصيرة، بل أيضاً أثناء تأدية المهام الثابتة تحت مسمى «مراقبة صامتة».
كان من شأن المثالب في بطاريات «الليثيوم-أيون»، فضلاً عن الطلب المتزايد على طاقة أكبر مع الحجم والوزن ذاتهما للبطارية أو أقل منهما (يُشار إلى ذلك بـ «كثافة الطاقة»)، أن حفّزت الأبحاث لمبادرات تكنولوجية لبطاريات بديلة. وفي الواقع، تأتي هذه المبادارات مدفوعة باحتياجات تجارية محتملة كشأن المتطلّبات العسكرية، خصوصاً تلك المتصلة بعربات كهربائية. أما الهواجس الأخرى المتعلقة باستخدام «الليثيوم» و«الكوبالت» فهي اقتصادية واستراتيجية، إذ إنّ الاحتياجات الكبرى من هذه المعادن الخام تأتي من أربع دول هي تشيلي، وأستراليا، والكونغو والصين.
وتسعى جهات أخرى إلى استبدال عنصر «الليثيوم-أيون» التقليدي بالكامل. وتُنتج شركة Tesla بالفعل سيارات تعمل ببطاريات «ليثيوم-حديد-فوسفات»؛ بينما تُطوّر الشركات الصينية تكنولوجيات «صوديوم-أيون» (Na-ion) تلك التي تتطلّب كمية قليلة من «الليثيوم»، أو «النيكل» أو «الكوبالت» أو ربما لا تتطلّب أي قدر منها؛ وتعكف شركة «سامسونغ أس. دي. آي» Samsung SDI على التطوير الأمثل لبطارياتها المشتملة على مقدار عال من «المنغنيز».
تُظهر الأبحاث المتعلّقة بـ «الإلكترولايتات [الكهارل] الصلادية» Solid-state electrolyte تقدّماً في التطوير، وتَعِد بفوائد تفوق «الإلكترولايتات السائلة» وتشمل تلك كثافة طاقوية أعلى، ووزناً أخف، وفترة شحن أسرع، ومدى متزايداً، وفترة خدمة مديدة. وستستبدل «الإلكترولايتات» السائلة بـ «سيراميك» صلب أو صلد. وأظهرت أبحاث حديثة أن البطاريات الصلادية يمكن شحنها في غضون دقائق لتحتفظ بشحنها الكهربائي لأكثر من 6,000 دورة. ولا تُظهر البطاريات الصلادية فحسب كثافة طاقة أعلى من بطاريات «الليثيوم-أيون»، بل هي أيضاً تُراعي هواجس الاستقرار وتخزين الطاقة. فـ «الإلكترولايتيات» الصلادية تُراعي هواجس الاستقرار الحراري، وتخزين الطاقة، والشحن، والسلامة لدى بطارية «الليثيوم-أيون» التقليدية. أما المثلبة الرئيسية المتعلقة بالبطاريات الصلادية فهي كلفتها. فالأكلاف الأوّلية المتوقعة تصل إلى 800 دولار لكل كيلواط في الساعة وهي تفوق بكثير كلفة الـ 100 دولار لكل كيلواط في الساعة التي تُعتبر عملية ومُجدية من الناحية التجارية. ومع ذلك، تُعتبر «تويوتا» Toyota إحدى الشركات الرئيسية التي تسعى لتطوير هذه التكنولوجيا واستثمار وعودها العملية، خصوصاً في التطبيقات المتصلة بالعربات والسيارات والمركبات على أنواعها.
تتطلب بطاريات «الصوديوم-أيون» كمية أقل من «الكوبالت» و«الليثيوم»، ما يجعل منها أقل سُمِّيَة، كما أنها أكثر استقراراً من الناحية الحرارية وتتّسِم بفترة خدمة مديدة. وتوفر هذه الخصائص إمكانية التصنيع بكلفة منخفضة نسبياً، ولو أن كثافة الطاقة الأخفض يتقصر حالياً «الصوديوم-أيون» على التطبيقات ذات المدى الأقصر.
وستستبدل بطارية «الصوديوم- أيون» Na-ion عنصر «الليثيوم» باعتباره أرخص بكثير من «الصوديوم». وتُبلي بطاريات «الصوديوم-أيون» على نحو أفضل أيضاً في درجات الحرارة المنخفضة، وتتيح الشحن السريع، والاستدامة ودورات الخدمة الأطول. وتتصدّر الصين حالياً برامج «البحث والتطوير» المتعلّقَين بـ «الصوديوم-أيون». ومع ذلك، أبدت شركات تصنيع بطاريات غربية، على غرار شركة «نورث فولت» Northvolt السويدية اهتماماً بهذه التكنولوجيا.
تتصدّر البطاريات المستندة إلى المكوّن [الكربوني] «الغرافين» Graphene مبادرات تطوير البطاريات، حيث تستأثر بتحسينات مبتكرة واعدة من جهة التوصيلية ومعدّلات الشحن. وتستخدم توليفة من مكوّن «الغرافين» ومواد أخرى في أقطاب «الكاثود» السالبة لخلايا «الليثيوم-كبريت». إنه إنجاز كبير من ناحية التحديثات الطارئة على أداء البطارية وفترة خدمتها.
وفيما يستطلع المُصنّعون إدماج عنصر «الغرافين»، ربما نرى قريباً بطاريات تُشحَن في غضون دقائق لا ساعات. ولا تزال هذه التكنولوجيا في مراحلها الأولى، لكنها تنطوي على إمكانيات هائلة لمستقبل العربات الكهربائية.
يجري تقصّي مقاربة خاصة بالعربات التكتيكية هي «التخزين الهجين للطاقة» Hybrid Energy Storage. فقد مُنِحَت شركة «إنترناشونال باتري أوف بنسلفانيا» International Battery of Pennsylvania في الآونة الأخيرة عقداً أوّلياً بقيمة 730,441 دولار (يمكن أن ترتفع قيمته إلى نحو 6.7 ملايين دولار) من «مركز الأبحاث والتطوير والهندسة للدبابات والعربات» TARDEC لدى الجيش الأميركي من أجل تطوير حل هجين لتخزين الطاقة لصالح الدبابات وعربات «سترايكر» Stryker. ويسعى برنامج «المراقبة الصامتة» هذا إلى استخدام بطاريات خفيفة الوزن، ومقوّاة، مما لا يُصدر حرارة، باستخدام خلايا «الليثيوم وفوسفات الحديد» لتوليد الطاقة ومُكثِّفات فائقة تتيح 50-100 أمبير في بصمة بطارية السيارة.
وثمة إمكانية أخرى تتمثل في بطارية خلايا الوقود/ الخلايا [الغالفانية] الأوّلية. ويُولى اهتمام خاص بهذه البطارية للعربات العسكرية ذات النسبة العالية من الارتجاج والصدمات. ومن شأن بطاريات العربات ذات الكثافة الطاقوية المحسّنة أن تُشغِل المحرك وأن تكمّل أو تستبدل أيضاً المحركات/ «وحدات الطاقة الاحتياطية» (APU) على متن العربة.
يسود اهتمام خاص بتطبيق التخزين المتقدّم للطاقة لصالح أجهزة دفع العربة، والاتصالات والإلكترونيات والمعالجة. ومع ذلك، ثمة هاجس أساسي أيضاً يتمثل في تلبية متطلبات أسلحة الطاقة الموجهة ذات الطاقة العالية. فالأسلحة غير ذات القوة الحركية هذه، وعلى الأخص أجهزة الليزر، تتطلّب سعة عالية وطاقة فورية من أنظمة تخزين الطاقة من الجيل التالي. وغالباً ما تتطلّب أنظمة تخزين الطاقة ذات المعدّلات العالية سرعات شحن بطاقة 100 أمبير أو أكثر من سعة الطاقة في البطارية. وتُعتبر هذه المعدلات أسرع بـ 50 مرة ممّا هو متوافر حالياً في معظم البطاريات. ومع ذلك، فإنّ مستوى الطاقة الاستثنائي، في هذا التطبيق، يمكن الاستحصال عليه فحسب لثوان قليلة في كل مرة. وفي ظل هذا الواقع، يتعين على تلك الأسلحة من أجل أن تُحرز القدرة على مواجهة أهداف متعددة تباعاً (وهي ميزة أساسية لأسلحة الطاقة الموجّهة)، أن تغدو مهيّأة فورياً لتأمين الطاقة المطلوبة لمهام اشتباكات متتالية ومتكررة.
تبقى الحاجة إلى الشحن مسألة رئيسية للبطاريات الكهربائية في بيئة تكتيكية. وبينما يجري تطوير وسائل شحن محمولة بديلة، فليس ثمة بديل واف حالياً للوقود Jet Propellant-8 (JP-8) المستخدم في العربات التكتيكية ولمجموعات توليد الطاقة. وتوفر الطاقة الشمسية إمكانيات، ولو أن فترات الشحن هي أقل من أن تكون كافية لاحتياجات الطاقة الأكبر نطاقاً.
ويطلب باحثون عسكريون أميركيون من الصناعة توليد الوقود من مصادر متوافرة محلياً لثاني أوكسيد الكربون بغية توفير الطاقة الكهربائية وشحن البطاريات للعمليات الميدانية العسكرية. وفي شهر آذار/مارس العام 2024، أطلقت «وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدّمة» (DARPA) الأميركية إعلاناً شاملاً لمشروع «الاغتنام الاستطلاعي للكربون لأجل مرونة واستقرار الطاقة» (ExCURSion). وينشد باحثو وكالة DARPA استخراج وقود من مصادر متوافرة محلياً لثاني أوكسيد الكربون، بالجمع معاً بين الكثافة العالية الطاقة للوقود الأحفوري وميزة الأنظمة الكهربائية بغض النظر عن مصدر الطاقة.
يخضع عدد من مقاربات تخزين الطاقة الواعدة للتقصّي من قِبَل مختلف برامج الأبحاث التي ترنو إلى التصدّي لبعض مثالب البطاريات الحالية. وحدّدت كارين ويلهام Karen Wilhelm، من شركة «لين ريفلكشينز» Lean Reflections، خمس مبادرات مماثلة، من بينها بطاريات «الليثيوم- تنغستن» NanoBolt من شركة «أن وان تكنولوجيز» N1 Technologies. وتتّحد الأنابيب النانوية المتعدّدة الطبقات من «التنغستن» tungsten و«الكربون» في تلك البطاريات مع الطبقة الأساس لـ «الآنود النحاسي» copper anode، لتنشأ بنية نانوية أشبه بالشبكة. ويتيح هذا الابتكار شحناً أسرع وتخزيناً أكبر للطاقة.
وفي مبادرة أخرى، وجد «المختبر القومي لشمال غرب الهادئ» Pacific Northwest National Laboratory، التابع لوزارة الطاقة الأميركية DOE، ردة فعل تحوُّل كيميائي في بطارية «زنك-منغنيز-أوكسيد» يمكن أن تزيد كثافة الطاقة في البطاريات التقليدية. وربما تكون بديلاً محتملاً لبطاربات «الليثيوم-أيون» و«الرصاص-أسيد» lead acid، خصوصاً لتخزين الطاقة على نطاق كبير.
وطوّر البروفيسوران في «جامعة ويسكونسن-ماديسون» University of Wisconsin-Madison الأميركية، روبرت هامرز Robert Hamers وروبرت وست Robert West، المُذيبات السائلة المستندة إلى مركّب «السيليكون العضوي» organosilicon (OS) التي بإمكانها أن تُبدّد نيران «الإلكتروليت» وخطر انفجار بطاريات «الليثيوم».
وتمكّن علماء في «جامعة كاليفورنيا» University of California، «إيرفين» Irvine، من تحديد أسلاك نانونية ذهبية مغطّاة بـ «ثاني أوكسيد المنغنيز»، ومن ثم تغطية تلك الأسلاك النانوية بهُلام «إلكتروليتي». وأثبت ذلك القدرة على إحراز 200,000 دورة وذلك من دون فقدان قدرتها على الاحتفاظ بالشحنة، مقارنة بـ 6,000 دورة في البطارية التقليدية.
وأخيراً، طوّرت شركة «تانك تو» TankTwo تصميماً تراكبياً في بطاريتها String Cell، وتحتوي كل بطارية منها على مجموعة من الخلايا الصغيرة، والمستقلّة، وذاتية التنظيم. ويمكن بفضل ذلك شحن هذه البطارية في غضون دقائق لا ساعات.
إن ضمان طاقة كهربائية وافية وموثوقة في سيناريوهات تكتيكية أو ميدانية لطالما كان عاملاً يُقاس من خلاله وجوب اعتماد كل جديد ينتجه التقدّم في التكنولوجيات الناشئة ذات الصلة. ويمكن أن تكون ميدنة أنظمة جديدة، مثل العربات المشغّلة كهربائياً، الخطوة الأحدث التي تُواجه هذه العوائق. ومع ذلك، إن ضمان مثل هذه البطاريات ليس مطلباً ذا بُعد عسكري فحسب، بل المُراد منه أيضاً تلبية التطبيقات التجارية على غرار «العربات الكهربائية» (EV) للاستخدام اليومي، وهي تُعزّز الاحتمالات بأن تسود هذه التكنولوجيات الواعدة بنجاح في المستقبل القريب، ميدانياً وتجارياً. ويقتضي ذلك من الجهات العسكرية أن لا تبقى فحسب على بيّنةٍ عن كثب من تلك الجهود التجارية، بل أن تسعى أيضاً إلى ضمان أن تؤخذ احتياجاتها الخاصة والمعقولة بعين الاعتبار، ما ينعكس بالتالي في النتائج المرجوة التي قد تنجم عن تلك الأبحاث، والتطوّرات التكنولوجية في مجال البطاريات.^