المدفعية الذاتية الحركة: متطلبات حلول الرمي والترحال التكتيكية
لطالما اتَّسَمت القوات البرّية التي أظهرت مقدرة مدفعيّتها الميدانية على مواكبة تقدُّم قوات المشاة وقوات الخيّالة بميزةٍ حاسمة. ذلك أنّ القوات البرّية ككلّ تكون قادرة على المضي قدُماً بكامل قطاعاتها سواءٌ بسواء، من دون أن يتقدَّم قطاع على حساب الآخر، وهو ما ألقت الضوء عليه مجلة «أرمادا» الدولية المتخصِّصة.
خلافاً للمدفعية المؤلَّلة أو الميكانيكية أو الذاتية الحركة، تحتاج المدافع المقطورة إلى فَصْلها عن وسائل قطرها من أجل الرمي، وتتّسِم بمحدوديةٍ من ناحية الحركيّة على الطرق الوعرة. وذلك يعني أنّها عاجزة على الاستجابة لمتطلّبات الرمي غير المباشر للوحدات القتالية المؤلَّلة خصوصاً خلال الهجوم، مقارنةً بنظيراتها المؤلَّلة. ولم يستغرق الأمر كثيراً بالنسبة إلى الجيوش لكي تبدأ بتركيب المدافع على منصّات مجنزرة ونصف مجنزرة ومدولبة في محاولةٍ لإمداد المدفعية بالقدرة على البقاء بالقرب من الوحدات القتالية التي تدعمها، ولذلك نُشِرَت العربات المجنزرة على نحو كبير خلال «الحرب العالمية الأولى». أمّا خلال «الحرب العالمية الثانية»، فتطوَّرت المدفعيّة المؤلَّلة أكثر لتوفير رمي غير مباشر من مدافع «هاوتزر» Howitzer مركَّبة على عربة فضلاً عن الرمي المباشر الذي تدعمه مدافع هجومية مباشرة على غرار (عربة) المدفع الهجومي المباشر المجنزر Sturmgeschütz III الذي طوّرته القوات المسلّحة لألمانيا النازية في حينه.
وثمة مزايا تكتيكية واضحة لـ «المدفعية الذاتية الحركة» Self-Propelled Artillery - SPA في ما يتعدّى قدرتها على مجاراة تحرُّكها مع القوات الميكانيكية، لكن ثمة مثالب أيضاً. فكما هو الحال مع جميع المعدّات العسكرية، ليس ثمة «حلٌّ أمثل» بل هناك مقايضة ما بين الخصائص المتنافِسة. فالنظام «الأمثل» إنّما يتأثّر بالمهمة، وتضاريس الأرض، والعدو المتوقَّع وقدراته، وكذلك وسيلة نشر المدافع والقوات البرّية ككلّ. كما أنّ هناك عدداً من التصاميم والابتكارات والتكنولوجيات ذات الصلة التي طُوِّرَت في العقود الماضية التي من شأنها أن تُضاعِف على نحو جوهري من فعالية وكفاية «المدفعية الذاتية الحركة» SPA. وتلك بدورها قد أثَّرَت على الطريقة التي تُنظَّم فيها المدفعية، واستُخدمت واُدمِجت في القوة القتالية الأكبر.
يتمثَّل دور المدفعية في تأمين رميٍّ غير مباشر دقيقٍ وفعّال على نحو سريع ضدّ قواتٍ مُعادية منتشرة في الخطوط الأمامية وكذلك لإسكات أو تدمير قدرة المدفعية المُعادية على الرمي المماثل ضد وحداتٍ صديقة (يُشار إليها بـِِ «بطاريات المدفعية المضادة» Counter Battery). لذا ينبغي أن تكون المدفعية قادرة على مهاجمة أهداف عند الطلب وكذلك تجنُّب تعرُّضها للتدمير من قِبَل عدو يسعى إلى رصدها، والاشتباك معها، وتحييدها أو شلّها. وتكمن الشروط أو المتطلبات المسبقة لرميٍّ مدفعيّ فتّاكٍ وفعّال في المعرفة الدقيقة لموقع وحدة الرمي وكذلك موقع الهدف، وإجراء حوسبة سريعة لحلول إدارة الرمي، وتلقينها للمدفع، ومن ثمّ تحقيق التأثير التدميري الأقصى عبر الإطباق على الهدف بطلقاتٍ عديدة مباشرة تفصلها ثوانٍ، مع حدٍّ أدنى من الإنذار أو حتى عدمه. وبعد استكمال مهمة الرمي يمكن التوقُّع، على الأقل ضدّ خصمٍ ذي مقدرةٍ تقنية موازية ووازنة، أن يدك موقع المدفع الذي تمّ رصده واستهدافه برمايات مضادة. وتجنُّباً لتعرُّضها لرميّ مُعادٍ، ينبغي ترحيل تلك المدافع إلى موقعٍ جديد ومن ثمّ الاستعداد للاستجابة لأوامر الرمي الجديدة. والمصطلح الشائع لهذا التحرُّك المتتابع هو «الرمي والترحال» shoot and scoot.
وكما أوردنا آنفاً فإنّ «المدفعية الذاتية الحركة» SPA هي خلافاً لمثيلاتها المقطورة أكثر ملاءمةً لهذه التقنية لكنّ إنجاز كلّ الخطوات المُبيّنة أعلاه لا يزال يُشكّل تحدّياً. ومع ذلك، جرى اعتماد العديد من التكنولوجيات التي تقدم للمدفعية بُعداً جديداً في استخدامها وفعاليتها. وتشمل هذه القدرات المحسَّنة الملاحة وتحديد الموقع؛ والقيادة والسيطرة التشبيكية الرقمية المدمجة؛ والتلقيم الأوتوماتيكي، وحوسبة كومبيوترية لحلول الرمي المؤتمت أو عناصر الرمي، وإرباض المدفع المؤتمت والذخائر المحسَّنة.
من شأن شبكة سواتل «نظام تحديد الموقع العالمي» GPS مقروناً بتطوير الإلكترونيات الصُغَرية أن تسمح لرماة المدفعية بتحديد الموقع بدقة حتى مستوى الجندي أو المعدّات الفردية. ومع ذلك فإنّ المدافع، ولا سيّما «المدافع الذاتية الحركة» Self-Propelled Howitzers (SPH)، إنّما تتطلّب على نحو أمثل دقّةً أعلى بكثير فضلاً عن قدرة مناورة واستجابة موثوقة حتى خلال التحرُّك، لربّما أكثر ممّا بإمكان «نظام تحديد الموقع العالمي» GPS أن يوفّره في أغلب الأحوال. وعندما يسمح التطوُّر في الحوسبة الكمبيوترية والأكلاف المخفَّضة لأنظمة «الملاحة بالقصور الذاتي» INS التي تستخدم الكمبيوترات ومستشعرات الحركة لتحديد موقع وسرعة العربة فإنّها إنّما توفّر تقدُّماً كبيراً في معلومات تحديد الموقع يمكن عندها تركيبها على كلّ نظام «مدفع ذاتي الحركة» SPH. ومن شأن وحدات أنظمة «الملاحة بالقصور الذاتي» INS على غرار Sigma 30 من تطوير «سافران ديفنس إلكترونكس» Safran Defence Electronics («ساجيم» Sagem سابقاً)، وKearfottLandNav وتلك التي تُنتِجها شركة «أسلسان» Aselsan التركية، أن توفّر تحديداً للموقع بدقّة أقل من عشرة أمتار (32.8 قدماً)، ونحو ألفية واحدة (التي توازي 0.0254 ميلليمتر) في الدقّة الاتجاهية في أية ظروفٍ كانت بما في ذلك خلال التحرُّك، وتحت الأشجار أو تحت الأحجبة التمويهية. وكما أشار أحد مهندسي تصميم المدفعية لدى شركة Safran: «إنّ هذه التوليفة التي تجمع بين أنظمة INS و GPS إنّما تُبدِّد الحاجة إلى دعم مسحٍ خارجي ويتيح لكلّ مدفعٍ معرفة موقعه على نحو ذاتي ودقيق في جميع الأوقات».
كان من شأن اعتماد شبكات البيانات الرقمية المدمجة أنْ تتصدّى للمشكلات الماثلة أبداً أمام المدفعية: كيفية تمرير معلومات الهدف من المراقبين المتموضعين في الخطوط الأمامية (أو المراقبين الميدانيين المتقدمين) إلى الرُّماة، وكيفية تنسيق الرمي بين بطاريات المدفعية المنتشرة في الميدان. وقد حلّت هذه المشكلة أنظمةٌ مثل نظام القيادة والسيطرة الخاص بالمدفعية ATLAS C2 من صنع «تاليس» Thales الذي يستخدمه الجيش الفرنسي. فهو يوفّر طرفيات على متن النظام المدفعي للاتصالات وإدارة الرمي في الوقت الحقيقي بما في ذلك طلبات الدعم الناري وأوامر الرمي. أمّا نظام القيادة والسيطرة للدعم الناري «نظام البيانات التكتيكية الميدانية المتقدّمة للمدفعية» AFATDS من «رايثيون» Raytheon، فقد استخدمه الجيش الأميركي وفيلق مشاة البحرية الأميركية. وأوضح ناطق باسم Raytheon أنّ نظام AFATDS يُحسِّن المدفعية عبر «وضع أولويات للأهداف والتنسيق في ما بين منصّات الرمي بدءاً من البطارية وحتى أعلى الرعائل القيادية لأنظمة المدفعية بغية توفير خيارات دعم ناري دقيقة ومنضبطة في الوقت المناسب».
وحينما تُقرَن أنظمة «القيادة والسيطرة» C2 هذه مع أجهزة تعيين موقع الهدف من المراقبين في المواقع الأمامية على غرار «مُعيِّن موقع الهدف» LP10TL Target Locator من «فينغهوغ» Vinghøg وأنظمة المراقبة المتقدّمة FOI2000، وGonioLight من Safran ونظام التهديف Thor Targeting System من «إنسترو بريسيجين» Instro Precision، يصبح بالإمكان تحقيق تظافرٍ فعلي بين المُراقِب والرامي. وفيما تكون المدافع والمراقبين على حدٍّ سواء في مواقع دقيقة مع تبادل لبياناتٍ حديثة غير معالجة للهدف مباشرةً، يمكن للرمي أن يتم بسرعةٍ غير مسبوقة. ويمكن لنظام» المدفع الذاتي الحركة» SPH أن يكون في حالة نقل إلى موقعه التالي ومع ذلك يتلقّي «نداء للرمي» من مراقِب ويبدأ الحوسبة والاستعداد لاستجابة رمي. ويمكن تحقيق حل رمي فعلي في غضون ثوانٍ، وتهديف، وتلقيم القذائف والرمي. وبمقدور نظام المدفعية PzH2000 من «كراوس مافي ويغمان» Kraus Maffei Wegmann (KMW)، وFH-77BW L52 Archer Artillery System من «ب أيه إي سيستمز» BAE Systems، و G6 من «دينيل» DENEL وK-7 Thunder SPH من «سامسونغ تيكوين» Samsung Techwin إطلاق قذائف في غضون 30 إلى 60 ثانية من التوقُّف. وتنعكس مزايا هذه التصاميم في نجاح تصديرها. فنظام K-9 Thunder على سبيل المثال هو التصميم الأساس (بإنتاجٍ مرخَّص) للنظام التركي T-155 Firtina (Storm)، وقد اختارته الهند في العام 2015 تحت تسمية K-9 Vajra حيث جرى تجميعه داخل البلاد من قِبَل شركتَي «لارسين» Larsen و«توبرو» Toubro. وإضافة إلى ذلك، يجري إنتاج هيكل K-9 وإدماجه بالنظام البولندي HutaStalowaWola AHS Krab، حيث كان أُطلق هذا النظام في آب/أغسطس من العام 2015، مع خططٍ لتسليم الجيش البولندي 120 نظاماً منه.
ثمة قاعدة ذهبية في القتال هي أنّ المفاجأة تُضاعِف التأثير القتالي، لذا فإنّ للهجوم الأوّليّ، قبل أن يتفاعل الهدف ويردّ، يستأثر دائماً بالتأثير الأكبر. وهذا ما ينطبق حتى على الرمي غير المباشر. وتكمن المهمة الأمثل في التنسيق بين مدافع أو بطاريات مدفعية عديدة لكي ترمي جميعاً هي أن تكون مآثر القذائف على الهدف متزامنة. ومن شأن استبدال أنظمة التلقيم اليدوي في «المدافع الذاتية الحركة» SPH بأنظمة تلقيم مؤتمتة أو آلية أن يتيح لبطارية وحيدة أو «حضيرة» تضم مدفعَين أو ثلاثة مدافع رمي الهدف على نحو متكرّر. أمّا الملقِّم الأوتوماتيكي، حينما يكون مقروناً بتهديفٍ للمدفع متحكَّماً به كمبيوترياً، فإنّه يتيح اشتباكات «المآثر المتزامنة المتعدّدة الطلقات» MRSI حتى بمدفعٍ وحيد. وتشهد العملية قيام الكمبيوتر بتغيير المرفاع أو الزاوية العامودية للمدفع لكلّ طلقة كي يكون بالإمكان لجميع مآثر الطلقات الارتطام في الوقت ذاته على بقعة الهدف. ويتّسِم نظام FH77BWL52 بهطلة رمي من ثلاث طلقات في غضون 15 ثانية، فيما يُحقِّق PzH2000 اثنتَي عشرة طلقة في أقل من 60 ثانية، بينما بإمكان BAE Systems M-109A6 Paladin لدى الجيش الأميركي رمي ثلاث طلقات في غضون 16 ثانية مع معدّل مستدام لثماني طلقات في الدقيقة. وتتجاوز هذه القدرات ما كان بإمكان بطارية كاملة من ستة إلى ثمانية مدافع أن تُحقِّقه قبل سنوات قليلة فحسب.
وممّا يترتَّب على اعتماد المُلقِّم الآلي أنّه يتطلّب إعداد تخزين الذخيرة في اشتقاقٍ في «مخزن الطلقات» حيث يمكن الوصول إلى النوع المحدّد من الطلقات والمقذوفات بكلّ جهوزية. وشملت المقاربات المعتمدة في هذا الشأن نوعاً مثبّتاً على المدفع clip type كما هو الحال مع النظام المدفعي FH77BWL52؛ ومقصورة ذخيرة محميّة منفصلة كما هو الحال مع انظمة المدفعية M-109A6، و K-9، و T-55، كما أوضح كريستيان بود Christian Budd، الناطق باسم شركة Kraus Maffei Wegmann (KMW)، الذي قال: «جرى تفعيل نظامنا PzH2000 على نحو أمثل لأجل العمليات الذاتية المستقلة. فقدرات التلقيم التلقائي الأوتوماتيكي والرمي السريع (رمي صَليات أو هطلات) هي أساسيّةٌ، فضلاً عن الحاجة إلى وجود كمياتٍ أكبر من الذخيرة على متن النظام المدفعي. وفي الواقع، يستأثر نظام PzH2000 بحمولة ذخيرة أساسية على متنه تفوق الـ 60 قذيفة».
فتجديد إمداد المدفعية بالذخيرة لتحل محل تلك التي استهلكت لطالما كان تحدّياً كبيراً. أمّا مع نظام «المدفع الذاتي الحركة» SPH فهذا يقترن بالقدرة على التحرُّك سريعاً وعلى الطرق الوعرة. وتوافر الذخيرة في شاحنات هو غير وافٍ إذ إنّ مثل هذه العربات لا يكون بإمكانها مجاراة التقدُّم، وغالباً ما كانت في الماضي تفتقد إلى حماية للطاقم ضدّ نيران العدو. وكان الجيش الأميركي سبّاقاً لحل هذه المسألة وذلك في العام 1982 عبر اعتماد «عربة إمداد ذخائر المدفعية الميدانية» M-992A2 FAASV من تطوير شركة BAE Systems. فهذا النظام الذي يملك هيكل M-109A6 ذاته، يتميّز بحركيّة وتدريعٍ موازيَين ويمكنه أن ينقل 96 طلقة تقليدية (علماً أنّ M-109A6 بحدّ ذاته تبلغ حمولته الأساسية 36 طلقة). وهو يضم نظام مناولة ذخيرة مشغَّلاً بالكهرباء يساعد الطاقم من خمسة جنود على نقل القذائف إلى «مدفع ذاتي الحركة» SPH. وقد اتّبعت جيوشٌ أخرى هذه المقاربة وهي في الواقع غالباً ما تشير إلى توليفاتها التي تجمع المدفع وعربة إعادة الإمداد بتسمية «منظومة» وذلك من أجل نشرهما معاً. وفي هذا الشأن، ينطوي FH77BWL52 من BAE Systems على منظومة كاملة تشمل معاً «مدافع ذاتية الحركة» FH77BWL52 SPH بحدّ ذاتها وعربات الدعم وإعادة إمداد الذخائر. ويُستخدم «المدفع الذاتي الحركة» K9 Thunder SPH إلى جانب نظام K-10، وهو عربة إعادة إمداد للذخيرة مؤتمتة كلّياً تتشارك مع النظام المذكور بالهيكل ذاته، وحزمة الطاقة وجهاز التعليق. ويمكن لهذه العربة أن تنقل اثنتَي عشرة قذيفة في الدقيقة. وتؤدّي هذه الأنظمة المبنيّة لغرضٍ محدّد لإعادة إمداد الذخائر دوراً حاسماً في ضمان أن يكون الدعم الناري المتواصل متوافراً على نحو موثوق ومعتمد عليه في ميدانٍ يتطلّب مرونة عالية. وهذا ما ينطبق بشكلٍ خاص على القتال الذي يتوجّب فيه على المدافع أن تتحرّك في أغلب الأوقات وحيث يُتَوقَّع الاستهلاك الشديد للذخائر.
من شأن توافر أنظمة «توجيه بالقصور الذاتي/ تحديد الموقع العالمي» INS/GPS وكمبيوترات رقمية أن تؤمّن احتساباً يكاد يكون تاماً لحلول رمي المدفع لكلّ هدف. وإدماج هذه البيانات في آلية («سيرفو» servo) أي التسديد بالإتجاه والارتفاع في المدفع، إنّما يتيح للرامي توجيه مدفعه إلى نقطة التسديد الملائمة بكبسبة زر. ويمكن لهذه العملية أن تكون مؤتمتة بالكامل حتى مع تحديد واختيار وتجهيز الحشوات الدافعة المناسبة. وهذه العملية «غير اليدوية»، مقرونةً مع التلقيم الأوتوماتيكي، هي أساس قدرة «المآثر المتزامنة المتعدّدة الطلقات» MRSI. وثمة ميزة أخرى تتمثَّل في حجم الطاقم المخفَّض إلى حدٍّ كبير كما هو مطلوب. وكانت أنظمة «المدافع الذاتية الحركة» SPH الأولى تتطلّب طاقماً ما بين خمسة إلى ستة جنود لكل مدفع/عربة. أمّا الأنظمة الحالية فقد خفّضت هذا العدد بنسبة 50 إلى 75 بالمئة. فعلى سبيل المثال، يمكن لنظام FH77BWLA2 أن يُنفذ الرمي بطاقمٍ من ثلاثة جنود فحسب. وبوسع هؤلاء أن يُنفِّذوا مهمة رمي كاملة والانتقال إلى موقعٍ جديد من دون حتى أن يلمسوا المدفع أو يغادروا المقصورة المدرّعة التي تحميهم. وتتّسِم هذه القدرة بأهمية خاصة لدى الدول ذوات القوات المسلّحة الأصغر حجماً وأعداد الجنود والمعدّات المحدودة. وكان ذلك أحد الحوافز وراء اختيار الجيش السويدي لنظام FH77BWLA2. وأكّد سينغورلاوغ جونسدوتير Singurlaug Jonsdottir، الناطق باسم قسم «بوفورز» Bofors لدى شركة BAE Systems التي تصنع المنتج، أنّ الجيش السويدي قد تسلّم وحدته الأولى في أيلول/سبتمبر العام 2015 فيما جرت عمليات التسليم للطلبية الأولى المؤلفة من 24 مدفعاً خلال العام 2016.
كان من شأن المستجدات في تصغير أحجام الإلكترونيات أنْ فتحَ الباب أمام اعتماد تكنولوجيا التهديف الدقيق في ذخائر الجو-أرض وتطبيقها على قذائف المدفعية. ومن بين أولى هذه التكنولوجيات قذائف M712 Copperhead الأميركية التي تستخدم رأساً باحثاً ليزرياً يُوجَّه المقذوف نحو الهدف من خلال الإضاءة عليه بمُعيِّنٌ ليزري.
ويقول بول دانيالز Paul Daniels، مدير برامج «الذخائر الموجّهة بدقة» PGM لدى شركة «رايثيون» Raytheon، بناءً على تجربة M712: «على الرغم من أنّها (قذيفة M712) كانت فكرة رائعة، فإنّ تعقيد عملية الرمي جعلت من الصعوبة بمكان استخدامها ... إنّ الذخائر الموجّهة بدقة PGM الحالية، على غرار Excalibur من Raytheon، هي أكثر بساطة، وأقل كلفة، وأكثر موثوقية ودقّة». فقذيفة Excalibur، التي تُطلَق من مدفع عيار 155 ملم، تهدف إلى تحقيق «دائرة الخطأ المحتمل» CEP للقذيفة أفضل من 20 متراً (65 قدماً). وفي الواقع فإنّ اشتقاق 1B يحقِّق «دائرة الخطأ المحتمل» CEP من خمسة أمتار (16.4 قدماً) حتى على مدى 36 كيلومتراَ (22.3 ميلاً). أمّا الاشتقاق S فيضيف رأساً باحثاً ليزرياً نصف نشط يُحسِّن من «دائرة الخطأ المحتمل» CEP إلى مترٍ واحد. وقد أثمرَ العمل المتواصل إنتاج مقذوفات موجَّهة بنظام الـ GPS الذي يمكن أن يتوافر على هيئة «أطقم» تُجهَّز بها قذائف الـ 155 ملم المعيارية. أمّا «قذيفة التوجيه الدقيق» PGK من شركة «أوربيتال أيه تي كاي» Orbital ATK فهي «مقذوف ذو تصحيحٍ للمسرى» يأتي كطقمٍ يُحوِّل قذيفة الـ 155 ملم المعيارية إلى «ذخيرة موجّهة بدقة» PGM. ويسمح PGK، طقم التوجيه الدقيق Precision Guidance Kit M1156، لطاقم المدفع بتغيير الصاعق وإضافة زعانف إلى قذيفتَيM549A1 و M795عيار 155 ملم. وتبلغ «دائرة الخطر المحتمل» CEP لقذيفة PGK ستة أمتار (19.6 قدماً).
أمّا المثلبة في «المدافع الذاتية الحركة» SPH فتكمن في صعوبة نقلها ونشرها في العمليات. فوزن وحجم المدافع الذاتية الحركة يحدّان من حركيتها الاستراتيجية في السفن أو طائرات النقل الثقيل. وقد طوّر العديد من الشركات حلولاً توفّر حركيّة للنقل البرّي والجوّي وذلك بتركيب المدفع على شاحنة تكتيكية. فنظاما Nexter CAESAR و Soltam ATMOS 2000 هما مدفعا «هاوتزر» عيار 155 ملم يُركَّبان على متن الحافة الخلفية للشاحنة. بل إنّ نظام DONAR من Kraus Maffei Wegmann (KMW) يذهب إلى أبعد من ذلك. فهو نظام مدفع تراكبي يمكن تركيبه على مجموعة واسعة من هياكل العربات المجنزرة أو المدولبة بحسب ما يُفضّله المستخدم. وتتشارك هذه الأنظمة القدرة المكمّلة للملاحة وتحديد الموقع، والقيادة والسيطرة C2، والتحكُّم الرقمي بالرمي وتشبيك إدارة عمليات الرمي. أمّا الفارق بينها وبين نظام «المدافع الذاتية الحركة» SPH الأثقل فهو أنّها عموماً (باستثناء نظام DONAR) تُلقَّن يدوياً ولو كان ذلك بمناولة للذخيرة معزَّزة آلياً ما يسمح لنظام ATMOS بتشغيل طاقم من أربعة جنود فحسب، بينما يستخدم CAESAR طاقم من ستة.
إنّ المزايا التي توفّرها «المدافع الذاتية الحركة» SPH هي حاسمةٌ للقدرة على تأمين الدعم الناري غير المباشر بشكلٍ فعّال للوحدات المدرّعة المناوِرة. ومع ذلك، فإنّ الوقائع المتزايدة لحرب العصابات، ولو كانت تقليدية نسبياً لكن على مستوى من التعقيد أخفض من المواجهة الجوية-البرّية الشديدة الوطأة، قد يتطلّب اعتماد «مدفع هاون ذاتي الحركة» SPH مركّب على شاحنة كخيارٍ كافٍ ووافٍ وحتى مفضَّل. وربّما نشهد مزيداً من التطوُّر الجوهري في المدفعية الذاتية الحركة أيضاً في الإلكترونيات والحوسبة أكثر ممّا هو في الميكانيكيات والمكوّنات المادية. ومن شأن ذلك أن يُسهِّل المفهوم العملاني الذي صُمِّم بموجبه نظام KMW PzH2000. إنّه مفهوم مدفع يعمل كوحدة رمي متكاملة مكتفية ذاتياً يمكن تشغيلها على نحو ذاتي مستقل فيما هي تُنفِّذ مهام رمي متعدّدة متتالية سريعة. ربّما بتنا على شفير أن نشهد قريباً انتهاء عهد البطاريات المدفعية العديدة والانتقال إلى مدفعٍ، أو زوج مدافع فحسب، يعمل أو يعملان على نحو مستقل لكن يُدار ويُوجَّه، أو يُداران ويُوجَّهان، عبر شبكة. إنّ حركيّة البيانات إنّما يُضاعِف حتماً منافع حركيّة المدافع بحدّ ذاتها، رمياً وترحالاً.^