سياسة تصدير الأسلحة الألمانية: محض خلاف
دبّابات Leopard II من «كراوس مافي ويغمان» Krauss-Maffei Wegmann (KMW) وغوّاصات شركة «ثايسن كروب مارين سيستمز» ThyssenKrupp Marine Systems (TKMS) والأسلحة النارية من شركة «هيكلر أند كوخ» Heckler & Koch معروفة جيداً لدى الجيوش في أنحاء العالم. وعلى الرغم من أنّها باهظة الثمن فهي مرغوبة من قِبَل الكثير من العملاء المحتملين. لكنّ زمن ازدهار صناعةٍ صغيرة ولكن فعّالة مع نحو 80.000 عامل يبدو أنّه قد انتهى. فالدَّخْل الصناعي الدفاعي، هو أقل من معدل 0.7 بالمئة من «إجمالي الناتج المحلي» GDP في ألمانيا، صغيرٌ جداً مقارنةً بفروعٍ أخرى من المحور الصناعي الرئيسي في أوروبا. ومهما يكن من أمر، يبقى قطاع الدفاع الألماني صناعةً رئيسية بالنسبة إلى برلين، وذلك بفضل المعايير التكنولوجية العالية وكذلك كشريكٍ موثوق وناجح في العديد من اتفاقيات التعاون الدولية. ومع النفوذ الدولي المتنامي، تُعتبر ألمانيا ذات أهمية استراتيجية من ناحية اقتصادها، وسياستها الخارجية والأمن. وعلى الرغم من أنّ النتيجة محدودة، فإنّ دورها كحافزٍ رئيسي للتكنولوجيات والابتكارات يبقى مهمّاً. غير أنّه مع تقلُّص الجيش الألماني يتعيَّن على الشركات الخاصة الوصول إلى عملاء دوليين بغية تغطية الأكلاف والحفاظ على موقعها كرائدةٍ في بعض فروع الإنتاج مثل الغوّاصات والدبّابات. لقد أصبحت الميزانية الدفاعية الوطنية صغيرة جداً وكذلك خفَّضت ألمانيا من أولوية هدف حلف شمال الأطلسي «الناتو» NATO بإنفاق اثنَين بالمئة من «إجمالي الناتج المحلي» على الدفاع، لذا قد يكون من الصعب الحفاظ على الهيكلية الحالية لصناعتها الدفاعية، وهي مجزَّأة ويُهيمن عليها العديد من الشركات الخاصة والصغيرة نسبياً. وبسبب نقص الحجم والموارد تشهد مزيداً من المشكلات من ناحية التنافس في الأسواق الدولية.
لكنّ ذلك ليس المشكلة الوحيدة، فصناعة الأسلحة الألمانية تشهد حالياً فترةً من النضال فالزمن والسياسات تتغيَّر. وأصبح «التحالف الكبير» («الحزب الديموقراطي الاشتراكي» من اليسار SPD و«الحزب المسيحي الديموقراطي» من المحافظين CDU) متردِّداً أكثر فأكثر من ناحية تشريع صادرات السلاح عموماً وبشكلٍ خاص نحو بلدانٍ تُعاني نزاعات مسلّحة أو ذات سُمعةٍ مشبوهة. في اتفاقية التحالف في آذار/مارس العام 2018، وافق الحزبان على الحدّ جداً من صادرات الأسلحة إلى بلدانٍ متورِّطة مباشرةً في نزاعاتٍ دولية كتلك التي تشهدها اليمن.
وللعام الثالث على التوالي، تراجعت صادرات الأسلحة من مُصنِّعين ألمان. ولامَ مديرون تنفيذيون في صناعة الأسلحة وسياسيون محليون الحكومةَ وموقفها المتبدِّل في الموافقة على مَنْح تراخيص تصدير. ففي العام 2015، وصلت قيمة صادرات الأسلحة الألمانية إلى ذروتها مع 7.86 مليارات يورو. ووافقَ الاقتصاد الأكبر في أوروبا على مبيعات السلاح مع قيمةٍ إجمالية للطلبات بلغت 6.24 مليارات يورو لكامل العام 2017. وانخفضَ بعد ذلك بعام إلى 4.82 مليارات يورو. وفي الربع الأول من العام 2019، وصلت طلبات الحصول على إذن تصدير للأسلحة إلى 1.12 مليار يورو فحسب وهو ما يُمثِّل تراجعاً طفيفاً يُقدَّر بـ 100 مليون يورو مقارنةً بالفترة ذاتها من العام السابق.
لكن ما هي الأسباب الرئيسية وراء هذا التطوُّر؟ لا يعود ذلك حتماً إلى الجودة الضعيفة للمنتجات الألمانية. فمنذ العام 2012 تُبدي المملكة العربية السعودية اهتماماً جدّياً بشراء ما بين 600 و 800 دبّابة قتال رئيسية Leopard II من شركة KMW. لكنّ الصفقة لم يتم توقيعها بعد. وتتمتَّع الأسلحة الألمانية بسمعة عالية جداً في العالم. نعم إنّ المنافسة في أسواق السلاح العالمية شاقّة. وتُرسِي دول أخرى تواصلاً أفضل مع مناطق يمكن أنْ تشتري أسلحة باهظة الثمن، كشأن بريطانيا العظمى مع دول الخليج العربي. وتنشط حكومات أخرى في ترويج منتجاتها الوطنية. فالرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، على سبيل المثال، هو شخصياً مَنْ عَمِلَ على بيع مقاتلات «رافال» Rafale إلى مصر. وثمة دول أخرى تُموِّل الحكومة بحدّ ذاتها صناعات السلاح العامّة وتدعمها، على غرار روسيا والصين. وفوق كلّ ذلك، تنشط الولايات المتحدة على خطٍّ أوفر نجاحاً. فهي تبيع منتجات الأمن إلى أيّة دولةٍ تقريباً وتستخدم قوّتها العالمية سياسياً واقتصادياً «لإقناع» الحكومات بشراء عتادها العسكري (المرتبط غالباً بعقودٍ توفِّر «تعويضاً موازِناً» Offset صناعياً، وتؤمِّن التدريب والدعم اللوجستي والتعاون العسكري).
على الرغم من هذه المثالب لشركات صناعة الأسلحة الألمانية الخاصة، فإنّ شركات «راينميتال» Rheinmetall، وKMW و TKMS قد أبلت بلاءاً حسناً خلال العقود الفائتة. فالاتّجاه النزولي في صادرات الأسلحة الألمانية ليس على الإطلاق دلالة على تراجع الطلب العالمي على الأسلحة. لكنّ الشركات الألمانية تواجه عائقاً آخر يصعُب بشكلٍ أكبر التغلُّب عليه. إنّه الرأي العام! فصادرات الأسلحة هي مسألة حسّاسة في ألمانيا نظراً إلى ماضيها النازي فضلاً عن الدور الذي لعبه صانعو السلاح على غرار شركة «كروب» Krupp في تغذية الحروب في القرنَين التاسع عشر والعشرين مع صادراتٍ إلى طرفَي النزاع على السواء. وعلى الرغم من أنّ برلين أصبحت الدولة رقم واحد في التصدير بعد العام 1945، فإنّ بيع الأسلحة لم يُعتَبر عملاً نشطاً للمستقبل. فمعظم صادراتها تذهب إلى شركاء أوروبيين وأطلسيين. لكن بعدما حَدَث في السنوات الأخيرة خصوصاً ثورات الربيع العربي والحروب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن فإنّ الشعور العام وسط 80 مليون ألماني قد تغيَّر. فبعدما أدركوا واقع كون ألمانيا مُصدِّر السلاح الكبير الرابع عالمياً، تنامت الضغوط على الحكومة. وبعد مفاوضاتٍ حكومية شاقّة وطويلة وافقت القيادة الجديدة المتمثِّلة بالمستشارة المخضرمة أنجيلا ميركل في الحدّ من صادرات السلاح إلى دولٍ خارج «الاتحاد الأوروبي» أو حلف شمال الأطلسي «الناتو». والدول التي ذُكِرَت بشكلٍ خاص في اتفاقية التحالف تُشارك في نزاعات مفتوحة على غرار الحرب الأهلية في اليمن. وتقود هناك المملكة العربية السعودية تحالفاً عسكرياً من تسع دولٍ تُقاتِل المتمرِّدين الحوثيين المدعومين من إيران. وتُطلِق الولايات المتحدة على تلك الحرب الأزمة الإنسانية العالمية الأكبر. ويؤكّد «تقرير نظرة عامة للاحتياجات الإنسانية لليمن للعام 2019» أنّ هناك أكثر من 14 مليون شخص (من بين عدد السكّان البالغ 24 مليون نسمة) مصنَّفون بكونهم «في عَوَزٍ شديد». ويُعاني أكثر من 3 ملايين من سوء التغذية، من بينهم مليونا طفلٍ. وبالتالي حظَّرَ تحالف برلين الصادرات إلى دولٍ متورِّطة في النزاع على غرار الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. وعلاوة على ذلك، كان من شأن اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في تشرين الأول/أكتوبر العام 2018، الذي أطلقَ موجة دولية من العقوبات والانتقادات ضدّ العائلة السعودية الحاكمة، أنْ دفعَ الحكومة الألمانية إلى تشديد إجراءاتها. وفيما ينتقد الرأي العام دور ألمانيا كمورِّد أسلحة ويُرحِّب بأي تحرُّكاتٍ تُفضِي إلى خفض صفقات السلاح والتدقيق فيها على نحو أكبر، فإنّ صناع الأسلحة قد هدَّدوا بالمطالبة بتعويضاتٍ لتراجع أعمالهم. وطالبَ هانز كريستوف أتزبودين Hans Christoph Atzpodien، المدير الإداري لنقابة «الصناعة الأمنية والدفاعية الألمانية» BDSV بوجوب «ألَّا تتحمَّل صناعة الأسلحة مسؤولية مسائل سياسية محض».
وبسبب القرارات السياسية، أصبحت الولاياتُ المتحدة العميلَ الرئيسي للمنتجات العسكرية الألمانية في الربع الأول من العام 2019، مع مشترياتٍ بلغت قيمتها نحو 170 مليون يورو، ومن ثمّ المملكة المتحدة مع قرابة 160 مليون يورو. ويلي هذان البلدان كلٌّ من أستراليا (90 مليون يورو)، والمغرب والنمسا (55 مليون يورو لكِلاهما). في المقابل، تنتظر تركيا شريك الأطلسي وكذلك المملكة العربية السعودية تسلّم طلبات أسلحة تبلغ قيمتها عدّة مليارات من اليورو. وكان من شأن هذه المعارضة العامّة على نطاقٍ واسع لصادرات الأسلحة إلى أنظمة ديكتاتورية وتعسُّفية أنْ أدخلَت برلين في وضعٍ صعب على الساحة الدبلوماسية الدولية. وبسبب القيود التي فَرَضتها ألمانيا على ذاتها، يمكن للمستشارة ميركل أنْ تضرّ بسياستها الخارجية ونفوذها في بعض المناطق. ففقدان الثقة المستَجِدّ، الناجم عن العقود التي تمّ التراجُع عنها، قد يُعرِّض مكانة ألمانيا كشريكٍ موثوق للخطر.
إنّ حَظْر صادرات الأسلحة إلى المتقاتلين في اليمن قد استحدَثَ مشكلة أخرى. وثمة شركاء صناعيون على غرار بريطانيا العظمى وفرنسا قد انتقدوا الخطوة لأنّها تُناقِض جهود المجتمع الأوروبي من جهة، ويُعرِّض جهود التصدير للشركاء الأوروبيين للخطر. فالبرامج التي ينخرط فيها دولٌ عدّة مثل مقاتلة «يوروفايتر» Eurofighter سيعتمد قسم منها على القِطَع الألمانية وبالتالي على موافقة ألمانيا للتصدير.
بيدَ أنّ أحدث الأرقام المنشورة تُظهِر ارتفاعاً كبيراً لأُذونات صادرات الأسلحة الألمانية في النصف الأول من العام 2019. وإجمالي تلك الأُذونات يفوق الـ 4.8 مليارات يورو وقد يتجاوز الإجمالي الذي تحقَّق في العام 2018.
ويبدو للوهلة الأولى أنّ الانخفاض والقيود ذات الصلة التي شَهِدَتها الأعوام الثلاثة الفائتة قد انتهت. وباتت المجر (هنغاريا) مع 1.76 مليار يورو، فضلاً عن كونها شريكاً للحلف الأطلسي، الوجهة الأولى لصادرات الأسلحة الجديدة. ويلي بودابست كلٌّ من مصر (800 مليون يورو) وكوريا الجنوبية (280 مليون يورو). ويلي مصر عضوٌّ آخر في التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية في اليمن ويحلّ في المرتبة السادسة، ألا وهو الإمارات العربية المتحدة (200 مليون يورو). وبفعل ضغوطٍ من بريطانيا وفرنسا، خفَّفَت برلين مؤخّراً من حَظْرٍ للأسلحة على المشارِكين في حرب اليمن. لكن حتى المجر لا تبدو العميل المثالي. فرئيس وزرائها القومي فيكتور أوربان Viktor Orban ليس على علاقةٍ جيدة مع الشركاء في الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو» حول مسائل عديدة. لكنّه يرغب في مضاعفة إنفاق حكومته على الجيش. وهي خطوةٌ تستدعي ردود فعل إيجابية من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وتبقى سياسة تصدير الأسلحة الألمانية محط خلافٍ ليس فقط في ما بين تحالف الحكومة بل أيضاً وسط السكّان. ففي وقتٍ يشهد فيه الاقتصاد تعافياً وتنامياً قد تُقدِم ألمانيا على التغاضي عن صناعة الأسلحة القوية العالية الجودة. لكنّ هذا التطور إذا ما استجدَّ قد يكون خطأً استراتيجياً ربّما يندم عليها في المستقبل حتى بلدٍ محاطٍ بـ «أصدقاءٍ» فحسب.