انضمام فنلندا والسويد إلى «الناتو» يفتح ملفات القطب الشمالي
عاد الحديث مجدداً حول قرب انضمام كل من فنلندا والسويد إلى «الناتو»، ما يهدد بتحويل بحر البلطيق إلى بحيرة داخلية قاصرة على بلدان أعضاء «الناتو»، وبما يحد من حرية الحركة لروسيا وأسطولها في بحر البلطيق وقواعدها البحرية في سان بطرسبورغ ومقاطعة كاليننغراد. ولا يقتصر الأمر في هذا الصدد على مجرد توسيع دوائر نفوذ هذا التحالف ومدى ما يمكن أن يمثله من أخطار تهدد روسيا المجاورة بحدود برية ونهرية ومتاخمة لبحيرات يمتد طولها مع فنلندا إلى ما يقرب من 1300 كلم، بل ويتجاوز ذلك إلى التأثير في مصالح روسيا وثرواتها في منطقة المحيط المتجمد الشمالي، وتنفيذ مشروع الطريق البحري الشمالي الذي طالما علقت عليه روسيا الكثير من آمالها الاقتصادية وأهدافها الاستراتيجية.
وفي الوقت الذي يتوقف فيه كثير من المراقبين في روسيا وخارجها عند الشق الأمني لقضية انضمام فنلندا والسويد لِـ «الناتو»، وأبعاد احتمالات المواجهة بين طرفي المعادلة، فإن هناك من يقول بضرورة الاهتمام بالأبعاد الاقتصادية للقضية، وما يمكن أن تجنيه الولايات المتحدة من مكاسب من خلال تعزيز مواقعها في منطقة القطب الشمالي. وثمة من يقول أيضاً إن هذه المنطقة ستكون إحدى أهم وأخطر ساحات المواجهة الرئيسية في القرن الحادي والعشرين. كما أنه من المتوقع أن يكون الانضمام المرتقب إلى «الناتو» لكل من فنلندا والسويد، عبئاً ومصدر متاعب لكل منهما، مقابل فوائد مشكوك في مضمونها وجدواها، في الوقت نفسه الذي سيكون فيه هذا الانضمام سبباً في تعزيز الولايات المتحدة لمواقعها في منطقة القطب الشمالي، وذلك فضلاً عما أشارت إليه وكالة أنباء «نوفوستي» حول أنه من المتوقع توافر احتمالات أن يكون «طريق الشمال البحري» سبباً رئيسياً في «تغير المناخ» في منطقة القطب الشمالي، بكل ما يترتب على ذلك من توفير الأمان والجدوى الاقتصادية لهذا المشروع، بموجب ما هو متوقع لهذا الطريق على حد ما أشارت إليه «نوفوستي» شبه الرسمية.
وأشارت الوكالة الروسية، إلى ما كان متوقعاً في ما صدر من دراسات وما احتدم من جدل حول مدى احتمالات أن يصبح «الطريق البحري الشمالي»، أحد أهم شرايين التجارة العالمية. وقالت المصادر الروسية إن الهيئات الرسمية للدولة تعلق آمالاً كبيرة على أهمية هذا الطريق، فضلاً عن أنه رسمياً «سوف يقارب نصف طول الطرق عبر قناة السويس أو حول رأس الرجاء الصالح».
في الوقت نفسه، ترى روسيا في «الطريق البحري الشمالي» مساراً ينتمي إليها تاريخياً، بينما يصر الغرب على عدم انتساب هذا المسار إلى الولاية القضائية الوطنية الروسية. ومع ذلك، فإن قاعدة موارد القطب الشمالي، والحق في استخدام قدرات النقل الخاصة به، ليست سوى الأسباب الأولى التي تبدو جلية حتى الآن، للمواجهة بين روسيا والغرب، في عشرينيات القرن الماضي. وها هو الشمال يصبح في سياق المطالبات المتبادلة المتزايدة، ساحة متكاملة الأبعاد للمواجهة، بالتالي فإن الولايات المتحدة باتت على استعداد لأن تدفع ثمناً باهظاً مقابل فرصة تعزيز مواقفها في هذا الاتجاه.
وننقل عن نيكولاي كورتشونوف، سفير المهام الخاصة لدى وزارة الخارجية الروسية، ورئيس لجنة كبار المسؤولين في مجلس القطب الشمالي قوله «أن قضية انضمام السويد وفنلندا إلى «الناتو» قد تجري تعديلات على تطوير التعاون في القطب الشمالي». وأضاف في تصريحاته إلى وكالة «سيفودنيا» أن الأمر يحتاج في الوقت نفسه إلى «ضرورة أن نفهم بوضوح أن تغيير الوضع العسكري - السياسي للبلدان، بالطبع، يمكن أن يدخل بعض التعديلات على تطوير التعاون في خطوط العرض العليا. وسيحدد الوقت، ما سيكون عليه هذا الأمر».
نشرت «كومسومولسكايا برافدا» بهذا الصدد مقالاً كشفت فيه عن أن موسكو تواصل جهودها الرامية إلى توسيع ملكيتها الجغرافية في هذه المنطقة، وقالت إنه «ريثما تدرس الأمم المتحدة هذا الطلب، فإن موسكو لم تغفل ضرورة متابعة الأمر، حيث قدمت طلباً إضافياً إلى لجنة الأمم المتحدة حول حدود الجرف القاري لحيازة 705000 كيلو متر مربع من قاع المحيط بالقرب من القطب الشمالي، ما يزيد على ضعفي مساحة ألمانيا الاتحادية. وكدليل على تبعيته للأراضي الروسية، قدمت نتائج الدراسات الجيوفيزيائية والجيولوجية، التي تؤكد أن هذه المناطق «استمرار» طبيعي للجرف القاري الروسي. وننقل عن أندريه بارانوف معلق الصحيفة الروسية ما قاله حول الصراع الخطير الذي تدور رحاه حول ثروات المنطقة بين الدول المتاخمة للمنطقة القطبية، وهي إضافة إلى روسيا، كل من الولايات المتحدة الأميركية وكندا والنروج والدنمارك التي تمتلك غرينلاند. وأضاف بارانوف «إن الجليد بدأ يذوب بدرجة كثيفة في القطب الشمالي، ما يجعل الاحتياطيات الهائلة من النفط والغاز الكامنة هناك تحت قاع المحيط قابلة للاستخدام».
غير أن الأوضاع الراهنة وما طرأ عليها من متغيرات نجمت عن اشتعال الصراع والمواجهة المسلحة بين روسيا من جانب، وأوكرانيا ومن يقف خلفها من البلدان الغربية من جانب آخر. وهناك احتمالات انضمام بلدان أخرى مجاورة إلى ساحة المواجهة، ولو على نحو غير مباشر، وذلك ما تتداركه الولايات المتحدة من خلال مفاوضاتها واتصالاتها مع الصين وما تتضمنه هذه الاتصالات من تحذيرات ضمنية. ولعل الوضع الجديد الذي يفرضه الواقع المرتقب لانضمام فنلندا والسويد إلى «الناتو»، يدفع إلى «أن قائمة الدول التي تبدي قدراً كبيراً من الاهتمام بالقطب الشمالي لا تقتصر على تلك البلدان المشار إليها، بل وتضم أيضاً الصين بكل قدراتها وإمكاناتها بما فيها العسكرية». وكانت المنطقة شهدت عدداً من المحاولات الرامية إلى بسط هيمنة تلك الدول وإثبات أحقيتها في هذه المنطقة بما تحتويه من ثروات نفطية وغاز طبيعي تبلغ في مجملها ما يراوح بين 16 و26 في المئة من احتياطي الموارد غير المكتشفة على وجه الأرض. وفي هذا الصدد تعمل روسيا من أجل تطوير اكتشافاتها في هذه المنطقة من خلال ما تملكه من تكنولوجيا متطورة، ومعدات جرى إعدادها خصيصاً لمواجهة الظروف المناخية إلى جانب الغواصات ذاتية القيادة للمحيط المتجمد الشمالي. وتأكيداً لأحقيتها ومشروعية تبعية هذه المناطق داخل حدودها، نجحت روسيا في إرسال غواصتين صغيرتين على عمق 4.200 متر من سطح القطب الشمالي، لنصب علمها في قاع المحيط من التيتانيوم المقاوم للصدأ، في خطوة وصفها بعض المراقبين الأجانب بأنها «خطيرة واستفزازية».
وكان الرئيس فلاديمير بوتين قد سبق وأعلن اهتمام بلاده بهذه المنطقة فيما قرر تخصيص نسبة كبيرة تبلغ 10 في المئة من الاستثمارات الحكومية الروسية في منطقة القطب الشمالي، وذلك إضافة لأن وقوع خمس الأراضي الروسية ونحو 90 في المئة من احتياطاتها الهيدروكربونية المستقبلية داخل الدائرة القطبية، ووجود مليوني روسي يعيشون داخل الدائرة المتجمدة، وهو أكثر من نصف عدد سكان في هذه المنطقة، ومع كون ما يقرب من 22 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا يتم الحصول عليه من حقول النفط والغاز في المنطقة الواقعة فوق الدائرة القطبية الشمالية، فإن منطقة الشمال الباردة تعد جزءاً لا يتجزأ من نسيج ثقافة الروس ورمزاً لطموحاتهم التاريخية للوصول إلى أقصى نقطة ممكنة شمال العالم.
عادت موسكو لتعزيز وجودها العسكري في القطب الشمالي بشكل تدريجي في العام 2013، ولكنها سرعت هذه العملية بشكل واضح العام الفائت، إذ بدأت بإعادة تأهيل المنشآت العسكرية والمطارات والموانئ التي أنشأها الاتحاد السوفياتي السابق في مناطق سيطرته في هذه المنطقة، وخصوصاً قاعدة «روجاتشيفو» الجوية في أرخبيل «نوفايا زيمليا»، حيث تمركزت فيها 4 مقاتلات اعتراضية من نوع «ميج -31» تابعة لسلاح الجو الروسي، إلى جانب طائرات أخرى وطوافات مخصصة لمهام النقل والدوريات البحريَّة.
يُضاف إلى ذلك إنشاء موقع تمركزت فيه بطاريات منظومة «إس - 400» للدفاع الجوي للمدى البعيد . وتضاف هذه القاعدة إلى قاعدتين جويتين شرعت موسكو منذ العام 2017 في إنشائهما؛ الأولى هي قاعدة «ناغورسكوي» الجوية في جزيرة «ألكسندرا» الواقعة شمال شرقي بحر بارنتس، والأخرى قاعدة «تيمب» الجوية في جزيرة «كوتيلني».
تُضاف هذه التعزيزات إلى التواجد البحري العسكري المتعدّد الأوجه الّذي أطلقته روسيا في هذه المنطقة، منذ أن دشَّنت في العام 2014 قيادة استراتيجية للقطب الشمالي، وفعّلت بشكل كبير مواضع أو مواقع لتمركز أسطول بحر الشمال في شبه جزيرة كولا في القطب الشمالي، إذ خضعت المنشآت البحرية في شبه الجزيرة هذه لعمليات تحديث مكثّفة خلال السنوات الأخيرة، بما في ذلك توسيع قاعدة «جادجييفو» للغواصات والمرافق التابعة لأسطول الشمال في خليج أوكولنايا ومنطقة بولشوي وقاعدة «سيفرومورسك -1» الجوية. والجدير بالذكر هنا أنَّ شبه جزيرة كولا تحتضن موقع اختبار الصواريخ الاستراتيجية تحت مسمى «بليستيك».
يُضاف إلى ما سبق، نشر صواريخ مضادة للقطع البحرية من نوع «باستيون»، ومنظومات الدفاع الجوي للمدى القصير «بانتسير» في عدة مناطق من القطب الشمالي، منها أرخبيل «نوفايا زيميليا» وجزيرة «كوتيلني»، إلى جانب منظومات الرادار «سوبكا-2» التي تم نشرها في جزيرة «رانجلر»، التي تقع على بعد 400 كيلومتر من ألاسكا.
النّقطة الأهم في ما يتعلَّق بالقدرات العسكريّة لروسيا في القطب الشمالي، تتمثّل بامتلاك أسطول الشمال الروسي أكبر عدد من كاسحات الجليد - سواء كانت نووية أو غير نووية - على مستوى العالم، إذ يمتلك ما يناهز 40 سفينة، في حين تمتلك كلٌّ من الولايات المتحدة الأميركية وكندا نحو 10 سفن فقط، ما يتيح لموسكو حرية الحركة في الممرات الملاحية المتجمّدة للمحيط القطبي الشمالي، وخصوصاً الممر الملاحي الشمالي الغربي الذي يحظى بأهمية مضاعفة، إذا ما وضعنا في الاعتبار أنّ بعض كاسحات الجليد الروسية مزوّد بمعدات قتالية تشمل صواريخ مضادة للسفن وأنظمة للحرب الإلكترونية.
إذاً، نصل إلى خلاصة مفادها أنَّ موسكو عادت مجدداً للاهتمام بالقطب الشمالي، ليس من الناحية العسكرية فحسب، بل من أجل خدمة أهدافها الاقتصادية والجيوسياسية أيضاً. في الوقت الحالي، تجد الدول الأخرى المطلّة على القطب الشمالي نفسها عاجزة عن مجاراة التحركات الروسية السريعة الوتيرة، لكن المؤكّد أن هذه الدول تراقب من كثب تحركات موسكو في هذه المنطقة، التي قد ترسم الصراع المستقبلي حولها ملامح الوضع الدولي خلال العقود المقبلة سياسياً واقتصادياً
وذلك كله يفتح الأبواب على مصاريعها أمام كل احتمالات تطور الأحداث في الفترة القريبة المقبلة، وبما يضع العالم بأسره أمام حقبة جديدة لم يتوصل علماء السياسة بعد إلى التسمية الدقيقة لها، نظراً لما يشهده عالمنا اليوم الذي يقولون إنه بات على مشارف حرب عالمية، قد تكون الثالثة والأخيرة بما لا بد أن تشمله من مكونات نووية.