مستقبل طائرات النقل التكتيكي: Embraer C-390 في موقع ريادي
كان من شأن النجاح التجاري الأخير لطائرة Embraer C-390 أنْ عزز النقاش حول النقل الجوي التكتيكي في أوروبا تحديداً، وفي باقي أرجاء العالم عموماً. وإضافة إلى ذلك، تزامن ذلك مع حاجة معظم أسلحة الجو لإحالة الأساطيل المتقادمة من طائرات النقل العسكري C-130 HERCULES من «لوكهيد مارتن» Lockheed Martin و AN-12 CURL من «أنطونوف» Antonov - على التقاعد - وبالتالي استحداث سوق عالمية محتملة لنحو 3,000 طائرة نقل تكتيكي.
من حيث المبدأ، تُعتبر طائرات النقل التكتيكي بسيطة وتشتمل على محركات قوية تسمح لها بتنفيذ أية مهمة نقل في أعتى الظروف، ولربما تحت النيران. ونقل مواد/ركّاب/عربات من مطار إلى آخر هو مهمة سهلة، لكنها معقدة بالنسبة إلى طائرة نقل عسكرية. في المقابل، بإمكان طائرة النقل التكتيكي العمل انطلاقاً من أي مكان، ومن فوق أي سطح، وتجهّز بلوح إنزال خلفي لا يتطلب أية وسائل خاصة على الأرض لإنزال/تحميل الركاب والمواد، ومن دون دعم أرضي أو كوادر وعربات متخصصة. لذلك تملك طائرة النقل التكتيكي على متنها جميع المعدات والأدوات التي تُمكّنها من العمل في ميادين معقدة. وتتباين أنماط نقل الحمولات وتسليمها، من النقل الاعتيادي أو التقليدي في منصات تحميل خاصة ترقى إلى معايير حلف شمال الأطلسي «الناتو» (NATO)، وصولاً إلى مجموعة متنوعة من وسائل الإسقاط بالمظلة. ويمكن تطبيق هذه المبادئ البسيطة على نحو أمثل في فترات الحروب عندما يفترض بطائرة النقل التكتيكي أن تنفذ جواً مهام «الميل الأخير» أو تعبر خطوط العدو. ولمعظم المهام المماثلة المنفذة شعاع أو قطر قتالي منخفض، إذ يتعين على طائرة النقل أن تحلق إلى نقطة محددة وتعود من دون إعادة التزود بالوقود. لذا ثمة تساؤل دائم مع الطائرات العسكرية حول كمية الوقود التي يتعين تزويدها بها، اعتماداً على الحمولة التي تنقلها والمسافات التي ستجتازها.
كما أن التوازن في توزيع أوزان الحمولة العسكرية على متن الطائرة يشكل هو أيضاً عاملاً مهماً جداً، إذ إن هذا التوزيع المتوازن إضافة إلى أداء المدرّج، يؤثر في توازن الطائرة وهي محمّلة أو مفرّغة. فعند تحديد أداء طائرة ما، ينبغي على المُصنّع أن يأخذ في عين الاعتبار بأنها ستُقلع بحمولة كاملة لكنها ستعود فارغة، وأنه خلال ذلك ثمة وقود وجزء من الحمولة سيتحرك داخلها من مكان إلى آخر، وينبغي بالتالي ألا يؤثر ذلك في القدرة على التحكم بالطائرة. وأخيراً، يحدد أداء المدرّج، مرصوفاً كان أم خلاف ذلك، إمكانيات عمل طائرة النقل. ومن بين التضاريس الشائعة لتلك المدرجات، الجليد، والرمال، والتربة وحتى المدارج المرصوفة (مهابط شبه مجهزة) يتعين على طائرات النقل التكتيكي أن تُقلع منها وتهبط عليها، ولربما ضمن حيّزات ضيقة. وهنا ثمة دور لاختيار المحرك: فالحسنات والسيئات في هذا السياق تحدد احتمال تنفيذ طائرة النقل لعمليات معينة بدل أخرى. وبحسب دراسات بريطانية ذات صلة، يستخدم طيّار مدني طائرته عادة عند ثلثي إمكانياتها للحفاظ على هامش أمان كبير. لكن هذه النسبة في الطائرة العسكرية غالباً ما تصل إلى %100، ولذلك تكون فترة خدمة الطائرة العسكرية أقصر من تلك المدنية، علماً بأن طاقتها تكون قد استُفذت إلى أقصى حدود. وقد حاولت أسلحة الجو على مدى سنوات استطلاع العوامل المعيارية، التي تفرضها مهام النقل الجوي التكتيكي، القابلة لإعادة النظر فيها. فقد بُني بعض الطائرات لإمداد المستخدمين بأداءٍ متفوّق في المهام التكتيكية، بأكلاف مشتريات وخدمة عالية. ولربما قبلت أسلحة الجو أحياناً طائرات النقل التكتيكية المشتقة من طائرات النقل الإقليمية، كما هو الحال مع طائرة C-295 من «ايرباص» Airbus، التي تمثل نجاحاً تجارياً كبيراً.
أن تكون الطائرة معياراً للمقارنة في السوق إنما يعتمد على العديد من العوامل، وخير دليل على ذلك عملية استبدال الأساطيل المتقادمة من طائرات C-130 و AN-12، التي تظهر أن متطلبات اليوم قد تكون متغيّرة، حتى مع انبثاق اتجاهات مثيرة للاهتمام - وذلك يشكّل معياراً للمقارنة من ناحية الأداء. فعلى سبيل المثال، تم استبدال بعض طائرات C-130 القديمة بأخرى من طراز C-130J، التي تتميز بدواسر، ومحركات، وإلكترونيات طيران، وطقم «إجراءات دعم إلكترونية» (ESM) جديدة، من بين أشياء أخرى. ويُظهر النجاح التجاري أنّ العديد من الدول قد وافق على خيار امتلاك طائرة تلائم تماماً متطلبات طائرة النقل التكتيكي وفق العقيدة العسكرية المتّبعة. وانطبق هذا المفهوم أيضاً على طائرة Leonardo C-27J الشقيقة الصغرى لطائرة C-130 - التي تشتمل على الدواسر، والمحركات، وإلكترونيات الطيران، والمكونات الأساسية ذاتها. بيدَ أن استبدال طائرات C-130H الأربع لدى سلاح الجو الهولندي، حيث كانت طائرة C-130J الخيار المفضل - قد فازت به على نحو مفاجئ شركة «إمبراير» Embraer مع طائرتها C-390M، حيث من المقرر تسليم ذلك السلاح خمس طائرات من هذا الطراز بدءاً من العام 2026.
ويمكن لطائرة C-390 أن تنقل حمولة قصوى زنة 26 طناً مقارنةً بحمولة 20 طناً لدى C-130J، على حساب استقلاليتها القصوى، التي تقل بنسبة %37 عن منافستها، وربما تراجع أيضاً في أداء الطائرة وسط الأحوال الجوية العاتية. بيدَ أن المشغلين يكسبون أكثر من ناحية السرعة (%25 أسرع)، وسهولة الصيانة والجهوزية العملانية. ووفقاً لتعليقات للحكومة الهولندية، ستُوفر طائرات C-390 الخمس ساعات التحليق ذاتها لخمس طائرات HERCULES - وهو عامل مؤثر أساسي في اتخاذ القرار حيث إن سلاح الجو الهولندي يتوقع نمواً في الطلب على مثل هذه القدرات على مستوى أوروبا. وفيما آثرت البرتغال والمجر انتقاء الحل ذاته، فثمة دلائل تدعو إلى القول إن المشغلين الأوروبيين المستقبليين الثلاثة لطائرات النقل التكتيكي C-390 إنما أخذوا في عين الاعتبار أكلاف فترة الخدمة، والجهوزية، والسرعة كعوامل حاسمة أكثر من المعايير الأخرى. وهذا ما يُثبت أنّ طائرة C-390 من Embraer تصبح مثيرة للاهتمام من الناحية التجارية، بل يسلط الضوء أيضاً على الجدل العقائدي حول كيف ستبدو عليه مستقبلاً مهام النقل التكتيكي. فمن وجهة النظر السياسية، فإن الانطباع السائد هو أن أسلحة الجو الأوروبية، عقب الانسحاب من أفغانستان واندلاع الحرب في أوكرانيا، لا تنوي أن تتعدى نطاق القارة العجوز وترغب في التركيز على ميدان أضيق تتوافر فيه المطارات، لكنها ستبقى كذلك إذا ما وصلت قوات تلك الأسلحة إلى وجهتها في الوقت المناسب. ويبقى كل ذلك تخمينات، لكن نجاح Embraer قد عزز الجدل الجاري في أوروبا ضمن هذا السياق منذ أن انبرت طائرة A-400M من Airbus بتولي زمام التحدّي بأن تصبح الحل الأوسط والأمثل بين القدرات التكتيكية والأخرى الاستراتيجية، على الرغم من الاختلاف من ناحية الحجم والتعقيد، لكن الاعتبارات لا تزال تندرج ضمن موضوع ما هي المهام التي يتعيّن على طائرة النقل التكتيكية تنفيذها، وعند أي سعر.
من شأن التعليقات والتحليلات المستندة إلى تجربة الدول الأوروبية مع طائرتَي النقل التكتيكي C-130J و C-27J، فضلاً عن الجدل الذي أطلقه نجاح طائرتَي A-400M و C-390 أن يؤثر في برنامج النقل الجوي التكتيكي التالي الذي أخذ يتبلور في أوروبا. وفي حزيران/يونيو الفائت، وقّعت حكومات كل من فرنسا، وألمانيا، والسويد اتفاقية لإطلاق برنامج «طائرة الحمولة التكتيكية المستقبلية المتوسطة الحجم» (FMTC) لتحقيق مطلب الحصول على طائرة نقل تكتيكي متوسطة جديدة. ويتصور البرنامج المذكور على وجه الخصوص إنجاز، بحلول العام 2040، تطوير طائرة يمكنها أن تستبدل أسطول النقل التكتيكي المتوسط الحجم للدول الثلاث المنوّه عنها أعلاه والذي يتألف أساساً من منصتَين: C-130 و CN-235، بعد إحالة طائرة C-160 الفرنسية-الألمانية مؤخراً على التقاعد، مع متوسط فترة خدمة يزيد على 35 عاماً. ومن وجهة النظر العملانية، وفي حالة فرنسا وألمانيا، من شأن هذه الطائرة أن تُكمّل أداء طائرة A-400M بحجمها الأصغر وسعة حمولتها الأقل (18-20 طناً مقابل نحو 35-37 طناً)، القادرة على العمل انطلاقاً من مدارج قصيرة أو شبه مرصوفة. أي باختصار، طائرة يمكن أن تُنفذ كل تلك المهام التي تُعتبر طائرة A-400 أكبر حجماً من أن تنفذها أو تعجز عن ذلك بسبب حمولتها. وإضافة إلى ذلك، ثمة تقديرات من فرنسا حول احتمال وجود تشاركية في الأنظمة بين الطائرة الجديدة وطائرة ATLAS، بما في ذلك المحركات أو المكونات، بغية تسهيل خفض أكلاف تطوير هذه المنصة الجديدة. وبرنامج FMTC الثلاثي يضم رسمياً في الوقت الحالي كلاً من فرنسا (البلد المنسّق)، وألمانيا والسويد، وبالتالي يحظى بدعم «وكالة الدفاع الأوروبية» والفوائد التي توفرها مبادرة «التعاون الهيكلي الدائم» (PESCO) وهي جزء من السياسة الأمنية والدفاعية للاتحاد الأوروبي. ووفقاً لبيانات رسمية لرئيس الأركان الفرنسي خلال حفل توقيع الاتفاقية المذكورة من المرجح مشاركة دول أخرى، بعضها منخرط في المبادرات ذات الصلة بالفعل على نحو غير رسمي. واعتبر سلاح الجو الفرنسي من جهته أن توقيع الاتفاقية يمثل الخطوة الأولى نحو تحديد المتطلبات والمواصفات المشتركة على نحو أكثر دقة، بانتظار بدء دراسات الجدوى الصناعية تمهيداً لعملية التطوير الفعلي، التي قد تبدأ بين عامَي 2026 و 2027. ويُمثّل برنامج FMTC إحدى مبادرات السياسة الأمنية والدفاعية الأوروبية PESCO الهادفة إلى التشجيع على أكبر قدر ممكن من التعاون في مشتريات أنظمة الأسلحة/المعدات العسكرية في ما بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وفي هذه الحالة، ضمن حقل قدرات الحركية الجوية العسكرية. والتوصيف الراهن لطائرة النقل التكتيكي الجديدة يميل إلى حل طائرة تكتيكية محض، من دون أية مساومات على الأداء في الميدان. ومع ذلك، فإنّ النجاح غير المتوقع لطائرة C-390 ومتطلّبات «مفوضية الاتحاد الأوروبي» لتقديم الدعم المالي للمشروع قد يحد من الفكرة الأولية لتطوير «منصة حربية» صرف. فمن وجهة نظر «المفوضية»، ينبغي على الطائرة المماثلة مستقبلاً أن تكون قادرة أيضاً، إلى جانب قدراتها التكتيكية العسكرية في الحركة الجوية، على تأدية مهام تتصل بالنطاق المدني - عمليات إخلاء، نقل طبي، بحث وإنقاذ، أخذاً في الاعتبار المتطلبات العملانية على مدى السنوات الـ 25 المقبلة.
حتى هذا التاريخ، لم تؤخذ سوى السوق الأوروبية في عين الاعتبار للإضاءة على العلاقة بين الأداء النظري التي يتعين على طائرة نقل تكتيكي تنفيذه، والطريقة التي يؤثر فيها هذا الأداء (أو لا يؤثر) في عملية صنع القرار لمشتريات طائرة نقل عسكري. ومع ذلك، وبما أن عدداً قليلاً من الشركات فحسب - مثل Embraer، و Lockheed Martin، و Airbus، و«ليونارود» Leonardo (من دون شركة Antonov بعد الآن للأسف) - تملك حالياً الدراية الضرورية لتصميم وتطوير وتصنيع طائرة نقل تكتيكية، أصبحت أوروبا محط الأنظار من قبل عشرات أسلحة الجو في العالم التي تسعى إلى تجديد أساطيلها من طائرات النقل المتقادمة (من ناحية التطبيقات العملية والبنية الهيكلية على حد سواء).