لا قوة أوروبية مستقلّة من دون المملكة المتحدة وأميركا!
فيما تُثار أسئلة تتعلّق بجدوى «حلف شمال الأطلسي»، المعروف بـ «الناتو» NATO، بمواجهة قوة أو قوات عسكرية محتملة للاتحاد الأوروبي مستقلّة عن الولايات المتحدة، فلا يزال هناك المزيد من المشكلات الجوهرية التي يتعيَّن تذليلها. وفيما تبعد المملكة المتحدة عن أوروبا من خلال اتفاقية «بريكست» Brexit أيّاً يكن الاتّجاه الذي ستَّتخِذه، هل سيكتسب أولئك الأوروبيون الذين يُفضِّلون إنشاء قوة أوروبية مستقلّة مزيداً من الزخم نحو تحقيق هدفهم المنشود هذا؟ فلطالما ترنّحت المملكة المتحدة متردِّدة بين عدم الرغبة في التخلُّف من ناحية التكافؤ التكنولوجي مع الولايات المتحدة، والسَّعِي إلى البقاء أوروبية الانتماء.
ويمكن استنباط الإجابة على هذه التساؤلات من خلال الميزانية الدفاعية التي تُقدَّم إلى «وزارة الدفاع الوطني» في الدول الأوروبية المعنية في عمليات نَشْر وتحديث وإمداد قواتها. ويمكن لنظرة سريعة على العديد من القوات في أوروبا أنْ تكشف أنّها مجرّد ظلالٍ لسابقاتها قياساً على أعدادها مع نهاية الحرب الباردة وبعدما استأثرت بـ «حصتها في السِّلْم» منذ انحلال جمهورية الاتحاد السوفياتي في كانون الأول/ديسمبر العام 1991. ومن الناحية التكنولوجية، غالباً ما تكون المعدّات حديثة وفعّالة لكنّ الأرقام ليست بالمُرضِية مقارنةً بالخصوم المحتملين بما في ذلك روسيا.
وكان من شأن عودة ظهور ما يُسمَّى بنزاعات «النّد إلى النّد» أنْ كشفت النقاب عن مكامن الضعف الرئيسية في هيكلية القوة الأوروبية المستقلّة العتيدة. فكلّ دولةٍ تنشد أنْ تستحوذ على مقاتلات ومدمِّرات «الشريطة الزرقاء» blue ribbon، أي تلك فائقة التطوُّر من الجيل الخامس، لكن لا يسعها أنْ تنشرها بفعالية سوى بقدر ما تسمح بذلك أعدادها. وأيُّ قوة رد فعل سريع برّية إنّما تعتمد على ترابُط الحركيّة والنقل برّاً وجواً وبحراً. فالنقل في جميع هذه القطاعات يبقى مشكلةً، حتى إنّ الحكومة البريطانية تسعى لتعزيز قدراتها في النقل البحري والجوي والبري في المملكة المتحدة التفافاً على تداعيات اتفاقية «بريكست».
وكبش الفداء الحالي في أوروبا هو الجيش الألماني، الذي حُرِمَ من الميزانية التي تسمح له حتى بالحفاظ على قواته في الخطوط الأمامية، كما تبدَّى للعيان في نهاية العام 2018. حتى من ناحية العديد، كشفت صحيفة «التايمز» The Times (في عددها بتاريخ 3/1/2019) أنّ الجيش الألماني كان ينقصه 20,000 مجنّد، وهو «أدنى مستوى يُسجَّل» وأنّ «الجيش الألماني لن يُجهَّز بشكلٍ وافٍ أقلّه حتى العام 2031» وفقَ تقرير تقصٍّ وطني.
ومن جهة التجنيد، تُعاني القوات البريطانية مشكلات أيضاً. فقد كشف «مكتب التدقيق الوطني» NAO النقاب في تقرير أعدّه في كانون الأول/ديسمبر العام 2018 أنّه منذ قيام الحكومة البريطانية بتلزيم مهمة التجنيد إلى «مؤسّسة كابيتا لخدمات الأعمال» Capita Business Service (Capita) في العام 2012 حتى تخلّفت هذه الأخيرة عن تحقيق الأهداف السنوية للجيش البريطاني بتجنيد جنود وضبّاط جدد كلّ عام منذ العام 2013. ويراوح إجمالي التراجع في التجنيد كلّ عام بين 21 بالمئة و 45 بالمئة من متطلّبات الجيش. فيما ازداد حجم هذا النقص، والتراجُع بشكل مريع على مدى السنوات الأربع الأخيرة.
وكما يشير تقرير مكتب NAO، فإنّ بعض هذه المشكلات لا تواجه المملكة المتحدة فحسب بل دول الاتحاد الأوروبي أيضاً، ومن بينها تحسُّن اقتصاد المملكة المتحدة قبل «بريكست» مع مستوياتٍ تاريخية منخفضة من البطالة، وشريحة السُّكّان المتقلِّصة المستهدَفة في التجنيد التي يتراجع احتمال التزامها بانخراطٍ طويل الأمد في القوات المسلَّحة، وهناك مفهومٍ شائع لدى الرأي العام أنّ الجيش يتراجع من ناحية الحجم والعملانية، ما يجعله أقل استقطاباً للانضمام إليه.
بناءً على ما تقدَّم، إنّ أية قوة أوروبية من دون ارتفاعٍ كبير في الإنفاق الدفاعي الأوروبي ومن دون المشاركة الفعّالة للمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية فإنّها ستكون مجرّد أداة سياسية اسميّة قادرة في المستقبل المنظور على القيام فحسب بفعلٍ انتقائي محدود. وتبقى تركيا، وهي القوة الثانية في ملف الناتو بعد الولايات المتحدة، الشريك الخيار الذي لا يمكن الاستغناء عنها، على الرغم من مغامراتها مع الميليشيات الإسلامية المختلفة في البر السوري.^