رياح التغيير في سوق المقاتلات
أنشطة قليلة جداً تحرك الدماء في عروق الدفاع، تماماً كما تفعل سوق المنافسة الجديدة التي تشهدها المقاتلات. إنها تاج الجواهر في معدات الدفاع، وهذا يعني أن أسواق المنافسة في المقاتلات، عندما يتم الإمساك بها، فإنها ستكون عنيفة جداً. وعلى مدى العقدين الفائتين، ومهما يكن من أمر، شكلت المنافسة أكثر استثناءً من القاعدة. أبرمت عدة عقود ذهبت ببساطة إلى أبطال الصناعة المحلية. واقتصرت عمليات دمج الصناعة الجوية بعد نهاية الحرب الباردة على المنافسة بين عدد أقل من اللاعبين. وفي الوقت عينه، فإن التعقيدات التكنولوجية المتزايدة باستمرار في المقاتلات، وعلى وجه الخصوص الإلكترونيات، تشير بوضوح بأن أكلاف المقاتلات ستتزايد باضطراد. وعلى ضوء هذه التوجهات، فإن الإنخفاض في أعداد المقاتلات في برامج المشتريات، مقروناً مع زيادة الأكلاف في الإلكترونيات، يبدو وكأنه يتناسب وبشكل كامل مع بعضه البعض، فهو احتمال راسخ غير قابل للتغيير.
وليس من العجب عندما بدأت ميزانيات الدفاع العالمية بالازدياد ثانية في العام 2016، وبالتالي فإن نفقات المقاتلات، إلى جانب غيرها من المصروفات في مجال الطيران، شكلت جزءاً كبيراً من هذه الميزانيات. كما أن النمو في مصروفات الطيران كان مؤثراً ومثيراً للإعجاب، ولكنه سيصطدم، وعلى الأرجح، في مكان ما بقيود ميزانيات الدفاع المحدودة. وبدأ يتضح بأن هذه القيود بدأت تطفو على السطح بالفعل في مصارفات الطيران الأميركية التي تراجعت قليلاً في العام 2018، ولكنها عادت بالنمو كما كانت عليه في السابق في العامين 2019 و 2020. وحتى مع النمو في الحجم فإن سوق المقاتلات حافظت على نموّها الطبيعي. وفيما اندمجت الصناعة إلى حد كبير، فإن عدد المتنافسين المحتملين في السوق واصل بالفعل ازدياده. ويعود سبب هذا النمو إلى ضمه أو إدماجه، المثير للدهشة، للعديد من التقنيات القديمة والجديدة التي تشهد تحولاً كبيراً في كيفية تفكيرنا حول توفير القدرة العسكرية.
ولطالما كانت إحدى العوامل الرئيسية في ازدياد أعداد المتنافسين في السوق، يعود إلى عدم رغبة مقاتلات الجيل الرابع في التلاشي أو الاضمحلال. واستناداً إلى ذلك، فإن الطرز المحدثة من طائرة «لوكهيد مارتن أف – 16بلوك 60» Lockheed Martin F-16 Block 60، وطائرة Boeing F/A-18E/F Super Hornet ما زالا منافسين قويين في السوق الدولية. كما أن وزارة الدفاع الأميركية عملت بالفعل لإعادة تنشيط مشتريات سلاح الجو الأميركي من خط إنتاج F-15 في العام الحالي وذلك للمرة الأولى منذ أكثر من 15 عاماً. ومن منافسي الجيل الرابع الآخرين على غرار «ساب» SAAB و«داسو» Dassault، و«يوروفايتر» Eurofighter الذين يثابرون على الاستئثار بحصة كبيرة نسبياً في السوق على الرغم من أن المقاتلة الشبحية F-35 أثبتت حضورها في سوق المبيعات الدولية.
وفي الخليج العربي، هبّت رياح التغيير عندما استحوذت الإمارات العربية المتحدة على 80 مقاتلة F-16E/F Block 60 Desert Falcon، وهي الآن تراهن على شراء عدد غير محدد من طائرة الجيل الخامس F-35 الشبحية. وكرّت سبحة المشتريات في العامين الفائتين حيث وضعت قطر طلب لشراء 24 مقاتلة Rafale و 24 مقاتلة Eurofighter Typhoon إضافة إلى 36 طائرة F-15 Q لترضي بذلك صنّاع الطائرات الرئيسيون. الكويت بدورها استحوذت على 32 مقاتلة F-18 Super Hornet و 28 طائرة Eurofighter، إلا أن الصفقة الأخيرة ينتابها الكثير من العوائق في مجلس الأمة الكويتي. بدورها اشترت سلطنة عُمان 12 مقاتلة Eurofighter وتمارس حقها الاختياري حالياً لشراء 12 طائرة إضافية. السعودية استحوذت على 24 مقاتلة Eurofighter ووضعت قيد الطلب 72 طائرة إضافية، كما أوصت على 84 مقاتلة F-15SA الأكثر تطوراً. وتجدر الإشارة إلى أن جميع الطائرات المشار إليها تنتمي إلى الجيل الرابع أو الرابع+.
وفي شمال أفريقيا، كانت مصر الدولة الأولى في المنطقة التي تحصل على 24 مقاتلة Rafale من الجيل الرابع، وهناك طلب جزائري لشراء عدد غير محدد من مقاتلات Su-35 الروسية.
وفي الوقت عينه، بدأت تدخل السوق مفاهيم جديدة وشراكات جديدة، لتزيد بذلك حرارة سوق المنافسة المستعرة أصلاً، حيث فازت Boeing بعد منافسة حامية الوطيس بمناقصة طائرة التدريب العتيدة الخاصة بسلاح الجو الأميركي.
وتعمل المملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا على تطوير مقاتلة من الجيل التالي تماماً كما تفعل اليابان وكوريا الجنوبية وتركيا في هذا المنحى. وعلى المدى البعيد، ينوي سلاح الجو والبحرية الأميركيين تطوير مفاهيم مقاتلة لتخلف المقاتلة F-35. وفي الوقت نفسه، فإن الأنظمة غير الآهلة على غرار الطائرة من دون طيار Boeing MQ-25، والآهلة على غرار طائرتي الهجوم الخفيف Embraer A29 Super Tucano و Textron AT-6 بدأت تفرض نفسها بقوة في سوق المبيعات. وفي عالم اليوم، فإن أية قوة جوية تسعى لتحديث ترسانتها الجوية سيُقدَّم لها العديد من الخيارات. إن المنافسة المتزايدة في سوق المقاتلات بدأت تنعكس تداعياتها على الأكلاف، واستناداً إلى ذلك ستراوح كلفة الطائرتين F-15 و F-35 كل على حدة ما بين 80 و 85 مليون دولار وهي كلفة قد توازن أكلاف طائرات الجيل السابق الأقل تطوراً في تسعينيات القرن الفائت. وفي الواقع، يبدو أن الأسعار المستدامة، والأصح أسعار المشتريات هي من المرجح أن تقرر الفائز في هذا النقاش. ومن شأن أسعار الطائرات المتزايدة أبداً أن تشير إلى النقلة الكبيرة وبالتالي التمييز الذي ينتابه الغشاوة ما بين طائرات الجيل الأحدث والطائرات الأخرى التقليدية التي تنجز مهام مشابهة.
إن خصائص المقاتلات التقليدية، وعلى وجه الخصوص السرعة والمدى والحمولة، يتم تعزيزها بطلبيات لجمع البيانات وروابط الاتصالات والإطلاع على الوضع. وهذه القدرات، التي تدرج في الحمولات، والطائرات التي تحلق بها قد تصبح على نحو متزايد سلعة تتهافت عليها عدة دول.
إن عودة رياح التغيير إلى سوق المقاتلات واستعار المنافسة بينها لا تعني بالضرورة شراء كمّ ضخم من الطائرات كما كانت الحالة إبان الحرب الباردة، وبخاصة في برامج المشتريات الأميركية والأوروبية والآسيوية. في الواقع، اقتصرت المنافسة على كمّ أقل نسبياً من الطائرات وكمّ ضخم من التكنولوجيات المتقدمة المبيتة فيها. وما ينطبق على برامج المشتريات المنوّه بها أعلاه، لا ينسحب على دول الخليج العربي، باستثناء البحرين، التي تهافتت في الآونة الأخيرة على وضع طلبات كبيرة من عدة مصادر كانت أشبه بجوائز ترضية لدول حلف الأطلسي الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والتي أبرمت معها اتفاقيات لتبادل الخبرات والتدريب والدفاع عن الدولة عند الاقتضاء. بقي أن نشير إلى أن صنّاع المقاتلات الأوروبيون الذين بدأوا بوضع مفاهيم لطائرة الجيل السادس اكتفوا بتطوير مقاتلات تنتمي إلى الجيل الرابع+ وتجاهلوا كلياً طائرات الجيل الخامس الشبحية.