دبابة القتال الرئيسية: تحوّل إلى العمليات المنخفضة الحدة
لعبت دبابة القتال الرئيسية دوراً مهماً وحاسماً في الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة والحروب العربية الإسرائيلية وغيرها من الحروب الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وجابت الوحدات المدرعة ميادين القتال بدءاً بسهول أوروبا وآسيا إلى صحاري شمال أفريقيا وصولاً إلى سيناء والجولان والعراق وإيران. وحافظت الدبابة على تصميمها الأساسي، أي عربة مجنزرة مدرعة مجهزة بسلاح رئيسي هو المدفع، وما تبدل هو تطور العناصر الأساسية للدبابة لتعزيز الحماية، والقوة النارية، والدقة والحركية. وتجدر الإشارة إلى أن دبابات القتال الرئيسية الغربية منها والشرقية صممت في سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت في خضم الحرب الباردة دعماً لعقيدة المواجهات الشاملة في العمليات المرتفعة الحدة HIW أو النزاعات المتماثلة في السهول الأوروبية.
وفي ظل التحوّل الجزئي في سيناريوهات القتال الأخيرة إلى الحروب المنخفضة الحدة، كان لا بد من توجيه التكنولوجيا لتطوير أنظمة ومعدات مناسبة لمنازلة الأعداء في هذا الخضم، ولكن تبقى الدبابة عنواناً لهيبة الدولة وجبروتها والسلاح الرئيسي في الحروب المرتفعة الحدة في الصراعات القائمة بين الدول وبخاصة القوية منها. فدبابة القتال الرئيسية تمكّن الجنود من تأمين الأرض، ودعم تقدم وحدات المشاة ودحر القوات المعادية.
ولا يسعنا في الحديث عن دبابات القتال الرئيسية إلا أن نعرِّج على استخداماتها التكتيكية. في الواقع، لازَمَ تطوير الدبابة بين العامين 1918 و 1939 التكتيك العسكري «الحرب الصاعقة» أو «الحرب العاصفة» Blitzkreig بحسب التسمية الألمانية، ويعود الفضل في ذلك بصورة رئيسية إلى الجنرال هاينز غودريان الذي وضع أسسها ومستلزماتها وبخاصة أنظمة الاتصالات اللاسلكية ما بين طواقم الدبابات ومع القيادة. وشاءت الأقدار أن يكون غودريان قائد سلاح المدرعات أثناء اجتياح بولندا وفرنسا في العام 1940. تعتمد هذه الحرب بصورة رئيسية على حركية القوات المدرعة والدعم الناري المكثف بهدف تفكيك التشكيلات القتالية ودحرها. واستخدم هذه العقيدة الجنرال إروين رومل في الحملة العسكرية في شمال أفريقيا ضد القوات البريطانية، كما اعتمدها الجنرال جورج باتون أثناء تحرير أوروبا من دول المحور. غير أن هذا التكتيك ليس ملكاً لصاحبه بل مفتوحاً لاستخدامه من قِبَل أيٍّ كان. وقد استخدمه الجيش الأحمر ضد القوات الألمانية وإرغامها على الانسحاب غرباً حتى برلين بعد أن كانت على مشارف موسكو. وأعطت عقيدة الحرب الصاعقة نتائج ممتازة في اجتياح فرنسا وبخاصة بعد اعتماد خطة الجنرال مانشتاين التي تقضي بإيهام القوات الحليفة أن الهجوم سيكون من الجبهة البلجيكية، فيما الهجوم الرئيسي سيكون من منطقة Ardenne وهي الخاصرة الضعيفة في القوات الحليفة ما أدى إلى تدمير التشكيلات القتالية في الخطوط الخلفية واستسلام فرنسا بعد ستة أسابيع. ومن الطبيعي أن تواكب قوات الدعم المجنزرة منها والمدولبة تقدم الوحدات المدرعة.
والآن، وفي وقتنا الحاضر، وصلت الدبابة إلى ما اصطلح على تسميته «الجيل الثالث»، واستشراف الجيل الرابع من خلال الدبابة الروسية الجديدة «أرماتا» Armata أو T14 التي ظهرت للمرة الأولى في التاسع من أيار/ مايو 2015 أثناء العرض العسكري في موسكو بمناسبة يوم النصر في الحرب العالمية الثانية. وكانت حافزاً لبرامج التحسين والتحديث لدبابات الجيل الثالث، وخصوصاً ما يصب منها في خدمة العمليات المنخفضة الحدة.
وظهر هذا الجيل نتيجة التقدم المضطرد في مجالي الإلكترونيات والمستشعرات، وبصورة عامة نتيجة مباشرة للدخول في عصر المعلوماتية والمعالجة الرقمية للمعطيات. أضف إلى ذلك الابتكارات الأساسية والميكانيكية التي ساهمت إلى حد بعيد بهذه النقلة النوعية. فالتقدم الذي أدى إلى استبدال المدفع عيار 155 ملم/ كاليبر 44 بالمدفع عيار 120 ملم كاليبر 52 ذي الجوف الأملس، أضفى ليونة وفاعلية كبرى على الذخائر «الخارقة للدروع المستقرة الزعانف النابذة لعقبها » APFSSD، كما تم التوصل إلى ذخائر مثلى من خلال المحاكاة الكمبيوترية وبخاصة القذيفة «المضادة للدبابات الشديدة الانفجار» HEAT و«القذائف المتشظية الشديد الانفجار» HE Fragmentation، إلا أن الدقة العالية والمدى البعيد الذي وصل في معظم دبابات الجيل الثالث إلى 4000 متر فتعود إلى مميزات المدفع ونظام إدارة الرمي الأوتوماتيكي المتقدمين. وباستطاعة بعض الدبابات على غرار T-90 B و Merkava MK4 و Armata T-14 رمي صواريخ موجهة مضادة للدبابات من خلال سبطانة المدفع إلى أمداء تصل إلى 4 كلم (وربما إلى 8 أو 10 كلم/ معلومات طي الكتمان) والاشتباك مع دبابات مجهزة بدروع تفاعلية متفجرة ERA إضافية وطائرات محلقة على علو منخفض (طوافات)، مع ركوبة ليزرية على المدفع. ومع تطوير نظام التلقيم الأوتوماتيكي الذي هو على معظم الدبابات الغربية، أصبح بالإمكان تحقيق احتمالية إصابة عالية ضد الأهداف الثابتة والمتحركة كما هي الحال مع دبابة «لوكلير» Leclerc الفرنسية.
وإلى ذلك، فإن جميع دبابات الجيل الثالث مجهزة بصورة معيارية بالأنظمة التالية: نظام تلقيم أوتوماتيكي، نظام إدارة رمي أتوماتيكي يتضمن كمبيوتر باليستي، قائس مسافات ليزري، نظام مراقبة بانورامي لرصد التهديدات والاشتباك معها ليلاً ونهاراً من قبل آمر الدبابة، مستشعرات متقدمة، أنظمة رؤية نهارية وليلية، كاميرات ملونة، أنظمة فيديوية على جوانب الدبابة لتحسين إدراك الوضع التكتيكي.
وعلاوة على ذلك، أدت الأبحاث بواسطة الكمبيوتر إلى الحصول على مواد مركّبة بكلفة أقل وجودة أعلى كانت الأساس في التدريع المتقدم الحالي للدبابات الحديثة. وتم اللجوء إلى التصاميم التراكبية في التدريع بهدف إدماج المواد المركبة بطريقة مثلى وبطبقات معينة لصد أي نوع من «الأسلحة الحرارية» HEAT أو «الخارقة للدروع» APFSSD.
لعل القسم الأكبر من برامج التحديث كانت تهدف لحماية الدبابة جيداً ضد التهديدات التقليدية وفي الأماكن الآهلة في سيناريوهات الحرب المنخفضة الحدة. وبخاصة قذائف أل RPG والحشوات المتفجرة المرتجلة ميدانياً IED. ولحظ في الطراز الأحدث من دبابة Leopard 2A7، الذي انبثق عن Leopard 2A6 قدرات حماية واستطلاع محسنة وهو بأتم الاستعداد للقتال في بيئات الصراعات المنخفضة الحدة والمرتفعة الحدة على السواء. كما جهزت Leopard 2A7+ بِـ «مركن السلاح المشغّل عن بُعد» FLW مركباً على البرج للدفاع عن الدبابة ضد تهديدات الأبنية ذات الطبقات العالية على جانبي الطريق في حرب الشوارع. وتؤمَّن الحماية في دبابة Leclerc بدروع من المواد المركبة المتقدمة ودروع تراكبية تضاف إلى بدن الدبابة عند الاقتضاء. وصمم سطح البرج لاستيعاب ذخائر الهجوم الرأسي.
وتشاطر دبابة Merkava MK4 دبابة Leclerc في الميزة الأخيرة بحماية الدبابة ضد الصواريخ المطلقة من الجو وأسلحة الهجوم الرأسي المضادة للدبابات. وتدعي إسرائيل أن Merkava MK4 هي الدبابة الأكثر حماية في العالم، فهي ذات تصميم غير اعتيادي حيث يقع المحرك في الجهة الأمامية للدبابة الذي يؤمن حماية إضافية للطاقم وفرص أفضل للنجاة. وكسابقاتها جهزت دبابة «أبرامز» M1A2 SEP بطقم الحماية في الأماكن الآهلة TUSK الذي يمكن تركيبه في الميدان وهو يحتوي على دروع إضافية خلفية وسفلية إضافة إلى تدريع إضافي لمقصورة المحرك، ومكعبات دروع تفاعلية متفجرة ERA في الجوانب. كما جهز النظام بمأخذ خارجي يسمح بتواصل طاقم الدبابة مع عناصر المشاة الراجلة المواكبة للدبابات. وإضافة إلى ذخائر APFSSD طورت شركة BAE Systems القذيفة M1028 Canister Round وهي تستطيع قذف كم ضخم من شظايا التنغستون بعصف هائل لتدمير المشاة المهاجمين على مدى يتراوح بين 200 و 500 متراً.
كما جهزت M1A2 SEP بمركن السلاح المشغل عن بُعد CROWS عيار 12.7 لتعزيز قدراتها على البقاء في البيئات الحضرية. ولضمان حماية إضافية جهزت دبابة Merkava بنظام الحماية النشط «تروفي» Trophy المجرب قتالياً والذي باستطاعته تدمير الصواريخ الموجهة وغير الموجهة المضادة للدبابات، كما جهزت الدبابة T90 بطقم المساعدات الدفاعية «شتورا-1» Shtora-1 الذي يتألف من مشوِّش حراري، نظام إنذار ليزري وقاذف معميات دخانية.
وضمن إطار تأمين سلامة أفضل أثناء العمليات غير المتماثلة، جهزت الدبابة بحماية دائرية على مدار 360 درجة ضد قذائف RPG-7 مع قدرة آمر الدبابة على إلمام أوسع بالبيئة المحيطة Panoramic view من خلال مرقاب مستقر مزوّد بقدرة رؤية حرارية (من الجيل الثالث) وبصرية، وقائس مسافات ليزري وكاميرا تلفزيونية.
وانفردت دبابة «ألتاي» ALTAY التركية بنظام حماية ضد الهجمات بالأسلحة الكيميائية والإشعاعية والجرثومية. كما إنها تتميز بنظام رؤية ليلية ونظام تصوير حراري وقائس مسافات ليزري مستقر لمساعدة الجنود على تحديد مواقع العربات والقوات المعادية.
ويبقى المكوّن الثالث لدبابة القتال الرئيسية، إضافة إلى السلاح والتدريع، ألا وهو المحرك. وقد خفّضت مرحلة التصميم بواسطة الكمبيوتر كلفة الأبحاث، وأصبحت محركات ديزل العنفية Turbo Diesel هي القاعدة. وفي ألمانيا يدفع محرك Euro Power Pack بقوة 1500 حصان معظم دباباتها القتالية الأوروبية. وتعمل «جنرال دينامكس» General Dynamics على استبدال المحرك AGT 1800 بقوة 1500 حصان نظراً إلى المشاكل التي واجهها في العمليات الصحراوية.
هل يمكن استشراف دبابة المستقبل؟ بالإيجاب يمكن تطوير تصميم دبابة تعمل بتلقائية كاملة من دون الحاجة إلى طاقم على غرار العربات الجوية القتالية غير الآهلة UCAV، ما قد يؤدي إلى الاستغناء عن الطاقم وتوفير حيِّز إضافي للذخيرة والوقود، وقد يؤسس ذلك لتصغير حجمها وبالتالي وزنها، ما يعني حركية أفضل وشبحية نسبية.
ولكن يجب الأخذ بالحسبان العنصر البشري الذي ما يزال يفرض نفسه في الطائرات غير الآهلة وكذلك في الدبابات. لذلك فالدبابة لما بعد الجيل الآتي ما زالت بعيدة التصور والتحقيق. الروس والأميركيون كانوا السباقين في تطوير دبابة وسيطة ما بين الجيلين الثالث والرابع، فدبابة Armata، التي ظهرت للمرة الأولى في العام 2015 هي أول دبابة في العالم مجهزة ببرج غير آهل لكنها تشاطر غيرها من الدبابات الروسية من حيث أنظمة الحماية الذاتية والدروع التفاعلية المتفجرة والدروع الحديثة المصنعة من الفولاذ والسيراميك والمواد المركبة. أما الأميركيون فطوروا الدبابة M1A1 SEP V3 المعدة لعشرينيات القرن 21 وما بعد، صممت هذه الدبابة لتكون أكثر فتكاً، وأشد سرعة، وأخف وزناً إضافة إلى حماية أفضل ومستشعرات جديدة وتكنولوجيا شبكية متقدمة، مجهزة بأسلحة أكثر فعالية