تداعيات خفض انتشار حاملات الطائرات الأميركية في الخليج العربي
يدرس القادة العسكريون الأميركيون ما إذا كان يجدر الإبقاء على المجموعة البحرية الضاربة لحاملة الطائرات «هاري أس. ترومان» في أوروبا بدلاً من إرسالها لمتابعة المهام التي كانت تقوم بها حاملات طائرات أخرى تابعة للبحرية الأميركية على مدى عقودٍ في مياه الخليج العربي.
والثُّغَر في وجود هذه الحاملات قد تكررت باضطراد في السنوات الأخيرة. فعلى سبيل المثال شهد العامان 2015 و 2017 ثغرتين استمرت كل منها لمدة شهر في وجود حاملات طائرات أميركية، وسط دلائل قليلة على إمكانية حدوث تحوُّلٍ كبير في ديناميات القوى هناك. وحينما غادرت حاملة الطائرات «ثيودور روزفلت» منطقة الخليج في شهر آذار/مارس العام 2018 من دون أي بديل، أصبح الخليج من دون حاملات طائرات أميركية.
وبعدما وضع وزير الدفاع الأميركي السابق (في عهد الرئيس دونالد ترامب) جيم ماتيس استراتيجية دفاع قومي جديدة (أوصى فيها ماتيس بتقصير فترة نشر المجموعات البحرية الضاربة التي تضم حاملات طائرات إلى أقل من 90 يوماً) تعيد التشديد على الحرب في مواجهة الإرهاب والتأكيد على التنافس مع الصين وروسيا، أخذت الولايات المتحدة تعيد التفكير في سبل استخدام منصاتها الأكثر رهبة ومهابة لنشر قواتها في الخارج، أي حاملات الطائرات.
فالهدف الأميركي هو النفط والحفاظ على الإبحار الآمن لناقلات النفط عبر مضيق هرمز، ذلك الموقع الحاسم الذي يخدم كبوابة لأكثر من نصف احتياطات النفط المعروفة في العالم.
فإبعاد حاملات الطائرات عن الخليج العربي ينهي نحو 30 عاماً من السياسة التي اتبعتها البحرية الأميركية التي تحتّم وجود حاملة طائرات أميركية على الأقل هناك، فضلاً عن حاملة طائرات في غرب المحيط الهادئ. وتعود هذه الحاجة الحتمية إلى عملية «درع الصحراء» في العام 1990 التي تطورت إلى عملية «عاصفة الصحراء» (بين 17 كانون الثاني/يناير و 28 شباط/فبراير) العام 1991، حيث انتشرت خمس حاملات طائرات في المنطقة. ومنذ ذلك الوقت أبقت التزامات عديدة حاملات الطائرات في المنطقة، لكن مع تمكُّن الحملة ضد تنظيم «داعش» من تقليص وجوده العسكري ليصبح فحسب مجرد فصيل محارب في الحرب الأهلية المتواصلة في سوريا، لم يعد ثمة أدوار إلا قليلاً لمقاتلات البحرية من طراز F/A-18، لدرجة أنّ الجيش الأميركي بات يعتقد أنّ لتلك الحاملات فائدة أكبر في أماكن أخرى.
لكن ماذا سيحدث لتوازن القوى إذا ما أصبحت دوريات حاملات الطائرات الأميركية في الخليج استثناءً بدل أن تكون قاعدة؟ يعتقد الخبراء أنّ تخفيض الولايات المتحدة لوجود حاملات طائراتها في الخليج سيكون له في الإجمال تأثير محدود على التوازن الاستراتيجي للقوى. كما أنهم يشكّكون ما إذا كانت إيران ترغب حقاً في إغلاق حركة العبور من خلال مضيق هرمز، في ظل ردود الفعل الدولية القوية التي ستنصب عليها.
كما أن هناك دلائل على أنّ إبقاء حاملات طائرات في الخليج قد يكون لصالح إيران، بحسب قادة في العمليات البحرية الأميركية، ومحللين استراتيجيين، إذ يرون أن إيران تفضّل بقاء حاملات طائرات أميركية في الخليج، لظنهم أنها بمثابة رهائن يستهدفونها متى شاؤوا في أي منطقة في مياه الخليج، وأن الإيرانيين يكفيهم مثل هذا النجاح لكي يتباهوا به في وسائل الإعلام أو يُظهرون لقطات لإصابة حاملة طائرات بسلاح لهم.
ففي هذه المنطقة الاستراتيجية المهمة، على الرغم من مساحة كتلتها المائية الصغيرة نسبياً، حيث يضيق أو يتسع عرض هذا الشريط المائي من 210 أميال [حوالي 337 كلم] في نقطةٍ ما شمالاً إلى 35 ميلاً [55 كلم] فحسب عند مضيق هرمز، والذي يمكن طيّاراً انطلقَ من على متن حاملة طائرات أن يرى، فوق نقاط عديدة، شواطئ ضفتَي هذا الخليج في يومٍ صاف، تتراءى له عند طرفي جناحي طائرته، فإن أي حرب إقليمية تندلع هناك قد تُحوّل الخليج إلى ممر جهنمي تغدو فيها حاملة طائرات كبيرة هدفاً رئيسياً للبطاريات الشاطئية الإيرانية، ولو اصطدمت تلك بالقوة الرادعة للبحرية الأميركية المنتشرة في البحرين، مقر «الأسطول الخامس»، بما يعيد في هذا الشأن حسابات واشنطن من الناحية الاستراتيجية.
وبغض النظر عن الأهمية العسكرية للإبقاء على حاملات طائرات في الخليج، في ظل التوازن الدقيق بين شركاء الولايات المتحدة في المنطقة وإيران التي لا تنفك تسعى إلى مضاعفة نفوذها هناك، فإن سحب حاملات الطائرات الأميركية قد لا يغير من لعبة التوازن هناك إذ إن للولايات المتحدة وجوداً انتشارياً قوياً بالفعل في قواعد جوية في الخليج العربي، مثل «الظفرة» في الإمارات العربية المتحدة و«العديد» في قطر، وهي في المقابل تعزز أنظمة الأسلحة المتقدمة، خصوصاً في المقاتلات الحربية وأنظمة الدفاع الصاروخي التي اشتراها شركاء عرب للولايات المتحدة في الخليج، وتجري تدريبات مشتركة بين البحرية الأميركية وقوات هؤلاء الشركاء لكي تصبح في صميم القوة الضاربة التي قد توجه ضربات إلى إيران في حال وقوع الحرب.
وإذا ما سعت الولايات المتحدة إلى إعادة زخم وجودها في الخليج، فذلك سيكون بعد استشارة شركائها الإقليميين. وفيما يقرّ بعض الخبراء باحتمال أن يُخفض تراجع وجود الحاملات في الخليج من القدرة الردعية للولايات المتحدة في مواجهة إيران هناك، فإنهم يرون أن ما يعوض ذلك هو مضاعفة تزويد الشركاء العرب هناك بالأسلحة الأرضية أو الجوية. فدول الخليج ترغب في أن تبقى الولايات المتحدة منخرطة في المنطقة، حتى مع انبعاث روسيا كقوة عالمية وازدياد نفوذ الصين كتهديد للأميركيين.
وخلاصة القول بحسب خبير استراتيجي أنه ما من شك بأنّ روسيا والصين يشكلان تهديداً عسكرياً أكبر من تهديد إيران، لكن الخليج العربي يبقى المخزون الأكبر لما يقارب 55 بالمئة من النفط العالمي. وهذا ما يستأثر بالأهمية الكبرى في الحسابات الاستراتيجية الأميركية تطلعاً نحو المستقبل.
هذا عن التموضع الاستراتيجي الخفيف للولايات المتحدة في الخليج العربي، فماذا عن التهديدات الإيرانية لدول الخليج العربي؟ في الواقع غدت مصافي النفط التابعة لشركة «آرامكو» في شمال المملكة العربية السعودية عُرضةً لهجمات خطرة بالمسيّرات الجوية خلال شهر أيلول/ سبتمبر 2019، وتجددت هذه الهجمات خلال العام الحالي، وتحديداً خلال شهرَي كانون الثاني/ يناير وآذار/ مارس، وكان لها ارتدادات على تدفق إمدادات النفط والغاز وارتفاع أسعارها. واستهدفت هذه الهجمات الحوثية للمرة الأولى أهدافاً حيوية ومهمة في أبو ظبي ودبي، وفي العمق السعودي ضد منشآت «آرامكو» في جدّة، وجيزان، وأبها وخميس مشيط.
نفذت هذه الهجمات بصواريخ بالستية، وجوالة وطائرات مسيّرة إيرانية المصدر. وتزامنت منذ 24 شباط/ فبراير مع الاجتياح الروسي لدولة أوكرانيا. وحذّرت السعودية من مخاطر خفض إنتاجها النفطي وأن هذه الهجمات تشكّل تهديداً لأمن الإمدادات البترولية، وقد تؤدي إلى التأثير على قدرة المملكة الإنتاجية على الوفاء بالتزاماتها، ويترتب عليها آثار وخيمة على قطاعات الإنتاج والمعالجة والتكرير، وزيادة مشاعر الغضب والإحباط في أوساط العديد من الحلفاء الإقليميين الرئيسيين تجاه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، مع التسليم بأن الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا ستؤثر على أسواق النفط العالمية وارتفاع أسعارها بصورة غير مسبوقة، في وقت تتطلع فيه أوروبا إلى البحث عن مصادر بديلة للنفط الروسي.
أما الولايات المتحدة فوقفت في البدء موقف المتفرج، ولكنها سرعان ما نددت بالهجمات على السعودية والإمارات العربية المتحدة وأعلنت أنها تواصل العمل مع حليفها السعودي لتعزيز دفاعاته الجوية، وأكثر من ذلك، طالبت الولايات المتحدة السعودية بزيادة إنتاجها النفطي وخفض أسعارها في الوقت الذي لم تحرك ساكناً لحماية إمدادات النفط العالمية، وأكدت الأخيرة من جانبها على أنها لن تتحمل مسؤولية أي نقص في إمدادات النفط للأسواق العالمية. وأبدت بعض الدول قلقها من إمكانية التعويل على دعم حليفهم الأميركي في وقت الشدة.
وختاماً فإن القرار الأميركي الهزيل في الدفاع عن المنشآت والإمدادات النفطية، يتماشى مع سحب المجموعات الضاربة لحاملات الطائرات، والتركيز بدلاً من ذلك على قاعدتين جويتين في الإمارات وقطر خشية أن تصبح حاملات الطائرات رهينة للتهديدات الإيرانية، فيما لو بقيت في مياه الخليج.
للمزيد من المعلومات، يرجى مراجعة قسم «رؤية» في العدد السابق آب/ أغسطس – أيلول/سبتمبر.