استراتيجية طرق الحرير الصينية في جنوب ووسط وشرق أوروبا
ما مِن مُبادرةٍ تتعلّق بالاقتصاد والسياسة الخارجية استقطبت الاهتمام العالمي مثل استراتيجية «طريق الحرير» الصينية الجديدة، حيث تُموِّل الصين حالياً مزيداً من البُنَى التحتية المنبثقة في أسواق العالم أكثر من جميع بنوك التنمية المتعدّدة الأطراف ودول «منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية» OECD مجتمعةً، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
صمّمت الصين «مبادرة الحزام والطريق» BRI، التي كانت تُدعَى سابقاً «حزامٌ واحد، طريقٌ واحد» OBOR، كإطارٍ إرشادي جديد لسياساتها الاقتصادية الخارجية مع تركيزٍ على الدول المجاورة لها من الجنوب والغرب وصولاً إلى الخليج العربي وأفريقيا وأوروبا. وهي من الناحية الرسمية ليست «مشروع ماريشال» صيني ولا استراتيجية سيطرة جيوبوليتكية. وباتت مبادرة BRI تضمّ 86 بلداً و 15 مقاطعة صينية. وحيث كانت تعتبر نفسها تاريخياً مركزاً للتجارة العالمية، فيما سمى الرئيسي الصيني شي جين بينغ المبادرة «مشروع القرن الواحد والعشرين»، كأداة لفتح الأسواق، وتوسيع قدرات التصدير، واستحداث الوظائف، وخفض النزاعات إقليمياً وتعزيز الاستقرار السياسي والأمني من خلال التنمية فضلاً عن الازدهار الاقتصادي، واستعادة دوائر النفوذ الصيني «الجيو-اقتصادية» و«الجيو-سياسية» في البرّ «الأورو-آسيوي» وفي ما يتعدّاه، في استحضارٍ لأمجاد «طريق الحرير» التاريخية التقليدية. وفي النهاية، أصبح ينظر إلى الصين كشكل مجدد للسيطرة التقليدية على الدول المجاورة والمنافسة تاريخياً، ولكنها كيّفت حالها للقرن الحادي والعشرين.
تروّج الخطة الصينية، التي تجمع البرامج السابقة، على غرار» الحزام الاقتصادي لطريق الحرير» SRAB واستراتيجية طريق الحرير البحرية MSR، لاستثمارات استراتيجية رئيسية على امتداد ستة محاور اقتصادية في محيطها، وتخصيص نحو 1 ترليون دولار أميركي للاستثمارات والتجارة الإقليمية عبر استحداث شبكة إمداد متكامِلة، لا سيّما من ناحية الإنتاج والنقل والطاقة، وتفعيل استثمارات هائلة في الموانئ، والمطارات، وسِكك الحديد بين الدول، والأوتوسترادات، وتجارة الحاويات، وكابلات الألياف البصرية، فضلاً عن مشاريع الطاقة. وهذا من شأنه أن يغير كلّياً الطريقة التي تُزَاول بها التجارة عالمياً، وزيادة حصة التجارة الأوراسية عبر الطرق البرّية، حيث إنّ التجارة البحرية بالحاويات تُسيطر عليها البحرية الأميركية. ولذلك تسعى الصين إلى مواجهة ذلك ببناء بحريتها التجارية لأعالي البحار أو المياه الزرقاء، ضمن استراتيجية «طريق الحرير البحرية» MSR للقرن الواحد والعشرين.
وفي هذا السياق تؤدّي استثمارات الصين في «وسط وشرق أوروبا» CEE، بما في ذلك دول البلقان، دوراً متزايداً مع ما يشوب ذلك من آثار استراتيجية سلبية واسعة النطاق على «السياسة الخارجية والأمن المشترك» CFSP في الاتحاد الأوروبي، حيث وقَّعَ عددٌ من دول الاتحاد عقوداً متبادلة مع الصين من دون اللجوء إلى بروكسل.
وقد استحدثت بكين بالفعل إطار تعاونٍ مؤسّساتي في قمة «16+1» مع دول «وسط وشرق أوروبا» CEE في العام 2012، ولم يشمل ذلك المفوّضية الأوروبية ولا البرلمان الأوروبي أو الدول الأخرى في الاتحاد. وتضم الدولُ الأوروبية الـ 16 في هذا التعاون 11 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي من «وسط وشرق أوروبا» و 5 دول من البلقان وهي جميعاً: ألبانيا، والبوسنة-الهرسك، وبلغاريا، وكرواتيا، وجمهورية التشيك، وإستونيا، وهنغاريا، ولاتفيا، وليتوانيا، ومقدونيا، والجبل الأسود (مونتينيغرو)، وبولندا، ورومانيا، وصربيا، وسلوفاكيا وسلوفينيا. ومن خلال إطار التعاون الإقليمي أصبحت بكين قادرة على تأجيج الخلافات متى تشاء في ما بين دول الاتحاد الأوروبي.
وفي الاتحاد الأوروبي، تلقت استراتيجية BRI الصينية انتقادات متزايدة، حيث يعتقد أن الاستثمارات الصينية غير شفافة ونفذت ضمن نظام سياسي دكتاتوري من دون الاحتكام إلى المنافسات في السوق الحرة. وتضمن الاستثمارات الاستراتيجية الصينية الأخيرة في البنى التحتية الرئيسية في أوروبا، شراء المرافئ الحيوية (على سبيل المثال مرفأ بيرايوس في اليونان)، والشركات الرئيسية في التكنولوجيا العالية High Tech، على غرار شركة الروبوتات الصناعية الألمانية «كوكا» Kuka في العام 2015. ونتج عن ذلك وضع قيود تحكم جديدة على الاستثمارات الصينية من قِبَل ألمانيا والمفوضية الأوروبية والتي انتقدت من قِبَل الصين باعتبارها سياسة حمائية لمنتجاتها الوطنية ضد دول العالم الثالث. وإلى ذلك، فإن الاعتماد الاقتصادي الأوروبي على الصين لديه آثار على المدى البعيد، حيث أنفقت الصين 95 مليار يورو على المشتريات والاستثمارات الأوروبية في العام 2016، ما يعادل استثمارات الأخيرة لأكثر من عشر سنوات. فيما شكلت الاستثمارات الصينية في منطقة جنوب شرق أوروبا SEE أهدافاً استراتيجية أخرى غير خيارات حيازة التكنولوجيات العالية لتركز على إنشاء بيوت اقتصادية مالية.
إن التعاون الإقليمي المؤسساتي لِـ BRI الذي يجمع الصين ودول CEE و SEE هو جارٍ رسمياً لتسهيل تعريف وتنسيق الاستثمارات الصينية في المنطقتين. وهي جزء من استراتيجية الصين لطريق الحرير الأوراسية لإيجاد محاور أو ممرات برية وبحرية لتوسيع التجارة العالمية في ما بين الصين ودول وسط وجنوب آسيا وأوروبا.
بلغت التجارة المتبادلة ما بين الصين ودول CEE و SEE، في العام 2017 على سبيل المثال، نحو 90 مليار دولار أميركي. فيما قُدِّرَت استثمارات الصين ضمن استراتيجية «طريق الحرير» في الدول الأوروبية الـ 16 المنوه بها فقط نحو 9.4 مليارات دولار أميركي، نصفها في دول البلقان، وهي الأصغر والأضعف اقتصادياً في أوروبا. إحصائياً، ومع ذلك، تشكل هذه الاستثمارات المباشرة الأجنبية FDI في منطقتي CEE و SEE فقط 5 في المائة من كامل الاستثمارات الصينية فيما تحظى أوروبا الغربية 90 في المائة. وشكلت الاستثمارات الصينية في كلا المنطقتين صدمة كبيرة على سياسات الاتحاد الأوروبي في المنطقة.
وثمة انتقادات في أوروبا منذ العام 2008 بأنّ الصين استغلّت الأزمة المالية والاقتصادية في أوروبا، حيث تعهَّدت على وجه الخصوص بدعمٍ مالي وتوظيف استثمارات كبيرة في عدة دول طالتها الأزمة بشدة، وتحديداً اليونان والبرتغال. ولطالما كانت هاتان الدولتان الأضعف اقتصادياً في أوروبا. فعلى سبيل المثال استحوذت الصين من خلال المجموعة الحكومية للشحن COSCO على حصة طاغية بنسبة %67 في الميناء اليوناني «بيرايوس» Piraeus، وهو أحد أهم مراكز إعادة الشحن البحري في أوروبا. كما موَّلَت بكين تشييدَ سِكّة حديد عالية السرعة بين بلغراد وبودابست بقيمة 2 مليار يورو في إطار شبكة سِكك الحديد التجارية عبر البلقان. وسترتبط هذه الشبكة بميناء «بيرايوس» و SEE وباقي دول الاتحاد الأوروبي، وقد مُوِّل هذا المشروع بقرض صيني يشكّل 85 في المئة من الكلفة الإجمالية للمشروع.
وثمة أمثلة عديدة على هذه الاستثمارات وعلى الأخص تلك التي تركَّزت على مشاريع الطاقة المتجدِّدة وكذلك محطات توليد الطاقة الجديدة بالفحم الحجري، ولا سيّما في كوسوفو.
الاستثمارات الصينية في أوروبا دونها عقبات، فصندوق النقد الدولي IMF الذي اعتاد على دعم استراتيجية BRI الصينية أصدر بياناً شديد اللهجة في نيسان/ أبريل 2018 يتهم فيه الصين بأنها تمول مشاريع غير ضرورية وغير مستدامة في عدة دول ما أدى إلى نسبة كبيرة من خدمات الدين غير المدفوعة. وبحسب تقرير أميركي آخر هناك ثمانية دول تجهد بصعوبة لإيفاء ديونها والتي غالباً ما تكون بأكلاف عالية كما تواجه 23 دولة أخطار إدارة مالية بسبب المستويات العالية التي تفرضها BRI في العروض المالية. واستنتجت دراسة أخرى بأن 32 في المائة من إجمالي مشاريع BRI (البالغة 419 مليار دولار) تواجه منذ العام 2013 تأخيرات في الدفع، وإلغاء بعض المشاريع، فضلاً عن المقاومة الشعبية لها، إضافة إلى سوء الإدارة، والفساد والنقاشات العقيمة حول الأمن القومي.
ومن المنظور الصيني يمكن تعريف خمس فوائد استراتيجية في استراتيجية طريق الحرير BRI: أولاً، تنسيق السياسات المختلفة؛ ثانياً، إيجاد روابط ما بين قطاعات الطاقة، والبنى التحتية للنقل والبنى السيبرانية الرقمية؛ ثالثاً، تخفيف العوائق التجارية والاستثمارية؛ رابعاً، استكمال ودمج الأسواق المالية وأخيراً ترقية التفاهمات الدولية.
إن استراتيجية الصين الثنائية التوجه في مجالي خلق الحوافز الاقتصادية وزيادة الضغوط السياسية تجلت بوضوح في قمة اللقاء الآسيوي الأوروبي التي انعقدت في تموز/ يوليو 2016، عندما قاومت هنغاريا، وكرواتيا، واليونان الاتحاد الأوروبي ضد الادعاءات الإقليمية الصينية في بحر الصين الجنوبي، كما أبطلت اليونان بيان آخر هام للاتحاد الأوروبي في رفض انتهاكات حقوق الإنسان في الصين. وعلى الرغم من ذلك، تدّعي بعض دول الاتحاد الأوروبي بأن الصين تريد فقط حيازة أو سرقة التكنولوجيا الاستراتيجية من خلال استحواذ شركات التكنولوجيا العالية. وهناك اليوم شكوك بأن الصين تريد تحقيق تأثير سياسي وتحكم بعملية اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي من خلال تكتيك «فرِّق تسُد» لإضعاف التضامن السياسي الأوروبي. وإلى ذلك، توسعت الأنشطة البحرية الصينية في العام 2018 إلى المشاركة في التمارين البحرية المشتركة مع البحرية الروسية في بحر البلطيق.
إن تنامي الاستثمارات الصينية في منقطة SEE والبلقان، سيؤدي حتماً إلى ازدياد تهديدات بكين للمصالح الروسية في المنطقة، وهو تهديد لموسكو مماثل إلى آسيا الوسطى حيث قوضت العلاقات المتنامية للصين في هذه المناطق، التأثير الجيوبوليتكي الروسي في ملعبها الخلفي التقليدي. واستناداً إلى ذلك، تعمل الصين على أن توازن تأثيرها في هذه المنطقة مع علاقات متعاونة مع روسيا، حيث تريد كلا الدولتين تهميش المصالح الأميركية والأوروبية في هذه المنطقة. كما إن استراتيجيات الاستثمارات الصينية الروسية غالباً ما تكون محكومة بالدوافع الجيوسياسية لتهميش تأثير الاتحاد الأوروبي أيضاً في المنطقة.
إن التهديد الذي يتربص بالاتحاد الأوروبي والدول الإقليمية ليس الاستثمارات الصينية وحسب، بل أيضاً شروط وتأثيرات هذا الاستثمار. وثمة حالة من فقدان الثقة في أوروبا وبعض العالم بالأعمال التي تنفذها الشركات الصينية وهي عادة ما تفتقر إلى الشفافية في التملك وخطط الأعمال واستراتيجيات الاستثمار. ويستشف من قول الصين المأثور «الدَيْن يفخخ الدبلوماسية» فإن الصين لا تدعم الاقتصاد المحلي فحسب، ولكنها ترسل العمالة المستوردة لتسهيل دخولها المصادر الطبيعية للطاقة، وفتح الأسواق لمنتجاتها المنخفضة الكلفة ومنع الدول من التخلص من دَيْنها والذي في نهاية المطاف يصرف انتباه هذه الدول المتعاونة مع BRI عن النمو المحتمل لاقتصادهم الوطني. وفي هذه الحالة، يتوجب على الاتحاد الأوروبي الاستجابة إلى استراتيجية استثمارية أكثر فعالية وسياسة إقليمية مصممة استراتيجياً، وغير ذلك سوف يخسر تأثيره الجيو اقتصادي في منقطة SEE وسيكون أداة طيّعة في اللعبة الصينية.
وهناك انتقادات متصاعدة حول استراتيجية BRI الصينية حول العالم، حيث يمكن أن تنشئ أساليب جديدة للعمل معها والشركات الصينية التي توفر كمّاً أكبر من المنافع المتبادلة. إن هكذا انتقادات قد تجبر بكين وشركاءها على تطبيق المعايير الدولية في مشاريعهم الاستثمارية بشفافية أكبر وتطوير مستدام للدول الشريكة مع «مبادرة الحزام والطريق» BRI.
في ظل هذا الاعتماد الاقتصادي للدول الأوروبية على الاستثمارات الصينية، أعلنت بكين أيضاً عن إطلاق «طريق الحرير الرقمي» واستثماراتٍ في كوابل الألياف البصرية الأوروبية، فضلاً عن البُنَى التحتية الخاصة بالاتصالات والإنترنت، وخدمات البيانات وحوسبة السحابة، وتحديد الموقع العالمي والاتصالات اللاسلكية فضلاً عن المستشعرات الذكية في الأماكن الآهلة.
فهل سيُشكِّل ذلك بوابة خلفية للصين للدخول إلى العالم الرقمي الحاسوبي السيبراني الاستخباراتي لأوروبا، بما يُضيف إلى هواجسها الاقتصادية والمالية؟ ذلك ما سيكشفه المستقبل بعد نهوض المارد الصيني من أزمة فيروس كورونا وعودته إلى العالم منافِساً أولاً على مرتبة القوة الاقتصادية الأولى في العالم التي يتوقع أن يتبؤأها في العام 2030، وربّما مصدر النقد والاستثمارات المالية الأول عالمياً، وإنّ غداً لناظرِه لقريب!.^