مئوية Sikorsky في صناعة الطوافات: الأجنحة الدوّارة للإخلاء وإنقاذ الأرواح
في العام 1923، أسّس مهاجرٌ أوكراني إلى الولايات المتحدة الأميركية شركةً غيّرت بشكلٍ جوهري طبيعة الطيران. وفي العام 2023، احتفلت الشركة المُصنّعة التي تحمل اسم مؤسِّسها، والمملوكة حالياً من شركة «لوكهيد مارتن» Lockheed Martin، بمئويتها الأولى في صدارة طيران الأجنحة الدوّارة وتتطلّع قُدماً إلى المرحلة المقبلة في تطوُّرها.
بعد مضي تسعين عاماً، لا يزال سيرغاي سيكورسكي (Sergei Sikorsky) يتذكّر رحلته الجوية الأولى. وأخذ العجوز البالغ 98 عاماً يتذكّر أيضاً: «جلست في حضن أبي، وأخذت أُراقب العالم الذي بدا فجأة أسفل مني. لن أنسى هذه اللحظة ما حييت».
والأب الذي تحدّث عنه هو إيغور سيكورسكي (Igor Sikorsky)، المهندس الأوكراني الذي هاجر إلى الولايات المتحدة عقب «الحرب العالمية الأولى»، وغيّر إلى الأبد من طبيعة الطيران مع منصّاته المتفوقة القادرة على الإقلاع والهبوط عمودياً.
واحتفلت الشركة التي تحمل اسمه، وهي حالياً شركة متفرّعة من شركة صناعة الطائرات العسكرية الأميركية Lockheed Martin، هذا العام بالذكرى المئوية الأولى لتأسيسها.
ومن بين الإنجازات التاريخية للشركة على مدى السنوات الـ 100 الماضية تطوير الطوافة العملانية الأولى، وطوافة الإنتاج الأولى عالمياً، وطوافة الخدمة الأولى في الجيش الأميركي، وأول تحليق بطوافة عبوراً للمحيط الأطلسي من دون توقف – من نيويورك إلى «معرض باريس للطيران» في العام 1967.
فقد قامت طوافتا Sikorsky HH-3E Jolly Green Giants تعودان إلى «سرب البحث والإنقاذ» لدى «سلاح الجو الأميركي» بهذه الرحلة الأطلسية إلى معرض «لوبورجيه» الباريسي، وقد استغرقتا أكثر من 30 ساعة طيران، وتسع عمليات إعادة تزوّد بالوقود جواً بواسطة طائرة صهريج Lockheed HC-130P. وكان باستقبال الطوافتين في باريس كلٌّ من إيغور وسيرغاي سيكورسكي عندما وصلا في اليوم الأول من شهر حزيران/يونيو من ذلك العام.
وكان إيغور سيكورسكي مهندساً جوفضائياً متخصصاً بالفعل عندما وصل إلى أميركا من كييف في العام 1919، هرباً من «الحرب الأهلية الروسية». وكان قد بنى في العام 1913 وهو لا يزال في الـ 24 من عمره، الطائرة المتعدّدة المحركات الأولى عالمياً في روسيا «القيصرية»؛ وهي طائرة ركّاب ثنائية الأجنحة رباعية المحركات تُدعى S-21 Grand.
وبدأت مغامرة سيكورسكي الجوفضائية الأميركية في العام 1923 في مزرعة دجاج صغيرة تقع شرق مدينة نيويورك. وسرعان ما انتقلت هذه المؤسسة الريادية الناشئة إلى منطقة «كوينز» (Queens) النيويوركية وبدأت إنتاج طائرات بحرية في العام 1926.
والرحلة التي يتذكّرها سيرغاي سيكورسكي وكأنها بالأمس، انطلقت من جزيرة «لونغ أيلاند ساوند» Long Island Sound في العام 1934 على متن الطائرة العائمة S-38 من صنع الشركة. ويتذكّر سيكورسكي الابن كيف أنه في سن السادسة أو السابعة كان يشاهد الفنيين الميكانيكيين على الأرض يُشغّلون يدوياً ذراع إدارة المحرك (الكرانك) للطائرة العائمة S-40 Clipper.
ويقول: «لا يسَعُك أبداً أن تنسى ذلك الصوت وذلك المشهد. أزيز محرّك التشغيل بالقصور الذاتي، ومن ثم الصوت المتقطّع والأجش وتصاعد الدُّخان الأزرق لينطلق المحرك».
ويلتفت سيرغاي الابن إلى والده ويسأله ما إذا كان بإمكانه أن يتولّى وظيفة «تشغيل الكرانك» المحركات عندما يصبح أكبر سناً.
وبينما تسنّى له أن يصبح طياراً، فإن سيكورسكي الابن يكشف حالياً أنه لم يحصل على وظيفة تشغيل المحركات يدوياً، والسبب كان اختراع المشغّل الكهربائي، وله فضل في ذلك.
في غضون ذلك استقرّت «مؤسسة سيكورسكي للطائرات» Sikorsky Aircraft Corporation في مقرّها الحالي «ستراتفورد»، بولاية كونكتيكت، وقد اشترتها «يونايتد ايركرافت أند ترانسبورت» United Aircraft and Transport - وهي شركة قابضة كانت في حينه تتحكّم بكل من «بوينغ» Boeing و«برات أند ويتني» Pratt & Whitney.
وبحلول العام 1938، حقّق مشروع Sikorsky الريادي بعض النجاح التجاري، خصوصاً مع طائرتي S-38 و S-40، اللتين كانت تُشغّلهما شركة الخطوط الجوية «بان أميركا ايروايز» Pan America Airways. ومع ذلك، استشرف إيغور المستقبل في مكانٍ آخر، وأخذ يسعى بجدية لتجسيد مفهومه للطيران العمودي.
والشركة التي أُعيدت هيكلتها تحت اسم Vought-Sikorsky سرعان ما بدأت العمل على تجسيد رؤية مؤسِّسها الغريبة الطموحة لتصنيع طائرة صغيرة باستخدام شفرات دوّار أعلاها لتوليد قوة رفع عمودية وكذلك اندفاع جوي أفقي.
وبحلول العام 1939، كانت الطوافة النموذجية الأولى VS-300 تنطلق عمودياً من ميدان في ولاية كونكتيكت.
وخلافاً للشعبية السائدة اليوم للطيران العمودي، اتضح حتى لسيرغاي الشاب أنذاك أن البيئة الجوفضائية في حينه لم تكن متناغمة مع رؤية والده.
ويتذكّر سيرغاي: «عندما كان يتحدث عن الطوافة، بدا جلياً أن هناك قسطاً كبيراً من التشكك والارتياب».
وقد امتدّ هذا الارتياب إلى المهندسين العاملين في Sikorsky. وأكد سيرغاي أنّ النموذج التدليلي الأولي للشركة قد بُنِيَ على الرغم من وجهة النظر السائدة أنذاك.
وبمواجهة كل هذه المواقف يقول إيغور سيكورسكي إن والده بقي متحمساً لفكرة الطوافة على أنها تكنولوجيا نقل ناجحة، ومتأكداً من إمكانيات هذا المفهوم من ناحية الاستجابة الطبية الطارئة وإنقاذ الأرواح.
ويُقرّ سيكورسكي الابن الذي دخل الخدمة في «سرب الطوافات الاختباري» لدى «خفر السواحل الأميركي» خلال «الحرب العالمية الثانية»، بأن فترات من الإحباط قد مرّت عند حل مشكلات هندسية اعترض تطوير الطوافة بدايةً على غرار فرط الارتجاج.
لكنّ إصرار والده إيغور مكّنه من تجاوز كل العوائق أمام تحقيق رؤيته، سواء تقنياً أم مالياً. ويقول سيرغاي عن والده: «ما أن يرصد مشكلة حتى يعقد العزم على حلها مهما كلف الأمر».
وجاءت النظرة الأولى لسيرغاي إلى الطوافة التي حققت حلمه في العام 1939 خلال اختبار الطراز الأولي VS-300. كانت الحرب قد اندلعت للتو في أوروبا، عندما توجّه إلى ميدان تجارب في مخيّم Sikorsky الصناعي في «ستراتفورد» حيث خضعت VS-300 لسلسلة من مناورات الإقلاع والتحويم والهبوط، فبدّد ارتياب المشككين وتعلق فعلياً بحبال من الهواء ...
وفي خلال «الحرب العالمية الثانية»، قدم ابن إيغور سيكورسكي إسهاماً جذرياً في طيران الأجنحة الدوّارة. فقد كان خفر السواحل، ومقره نيويورك، يختبر كيفية تطبيق تكنولوجيا الطوافة الجديدة في الاستخدامات العسكرية.
وبينما كان سيرغاي يخدم هناك، وضع الضابط الآمر للوحدة هناك فرانك إريكسون Frank Erickson تصوراً لسارية إنقاذ على متن طوافة وقام بتطبيقها.
وقد وَسَمَ «المعهد البحري الأميركي» US Naval Institute إريكسون بكونه طيّار الطوافة الأول في تاريخ الطيران البحري.
وقد أدّى سيرغاي سيكورسكي وهو في الـ 18 من عمره دوراً محدوداً في إثبات مدى فائدة هذه المنصة.
ويقول بنبرة افتخار: «رأى فرانك إريكسون أنّه من الأجدى تحقيق الثقة برافعة الإنقاذ على الطوافة بأن يتدلى نجل إيغور سيكورسكي الشهير أسفل تلك الطوافة بفضل رافعة الإنقاذ».
وقد لعبت الطوافة ذات الأجنحة الدوارة دوراً حاسماً في الإخلاء الطبي خلال الحرب الكورية، العام 1950-1953، ومع دخول Sikorsky S-51 الخدمة العملانية لدى الجيش الأميركي وفيلق مشاة البحرية الأميركية. وقد تثبّت الكثيرون من أهمية طائرة الأجنحة الدوارة في إخلاء الإصابات من أرض المعركة إلى مستشفيات ميدانية في ذلك النزاع، من خلال المسلسل الشهير في السبعينات «ماش» MASH.
ويتذكّر سيرغاي كيف أنّ والده، الذي توفي في العام 1972 عن عمر ناهز 83 عاماً، كان يفخر بالأدوار التي تقوم بها الطوافة في النزاع. وكان متى زار طيار سابق مصانع Sikorsky في «ستراتفورد»، يدعون الضيف إلى مكتبه فوق المصنع ويسأله عن أدق تفاصيل تجربته في مهام الإخلاء الطبي وإنقاذ الأرواح في كوريا، وملؤه الفِخار.
وجدير بالذكر أن شركة Sikorsky، تحت مظلة الشركة العملاقة Lockheed Martin، هي من تُنتج الطوافة (العسكرية) الشهيرة UH-60 Black Hawk للخدمة والقتال، التي قام العديد من اشتقاقاتها بأدوار حاسمة في البحث والإنقاذ والإخلاء الطبي لصالح القوات المسلحة الأميركية على مدى أكثر من 40 عاماً.