العمليات في القطب الشمالي: «تدرَّب إلى حيث ستذهب لخوض القتال»
أجمع الباحثون العسكريون، على هامش فعاليات معرض «رابطة الجيش الأميركي» AUSA، على أن منطقة القطب الشمالي الغنية بالموارد قد تكون مسرحاً لمواجهات يكون البقاء فيها لمَن تهيَّأ للحرب في تلك البيئة القاسية و«تدرَّب حيثما سيذهب لخوض القتال».
بدأ النقاش العقيد المتقاعد دان روبر، مدير «دراسات الأمن القومي» في رابطة AUSA، ومُقرّر هيئة الخبراء المجتمعين على هامش المعرض، بالتأكيد على اختلاف منظورات المتحدثين الثلاثة في المنتدى حول هذا الموضوع الاستراتيجي: «في بيئة جيوبوليتكية تتغيّر سريعاً، حيث لا مكان في العالم يماثلها، ويتضح فيه كيف تدفع تطورات في غاية الأهمية التغيرات الاقتصادية والسياسية، وبالتالي التداعيات الأمنية المرتبطة بها».
فمع التغير المناخي وطرق المواصلات الجديدة إلى هذه المنطقة، تنبثق منافسة متزايدة على المواد الخام الاستراتيجية (تُغطي منطقة القطب الشمالي %13 من احتياط النفط في العالم ونحو 30% من احتياط الغاز). وشدّد العقيد روبر على «طريق الحرير القطبي» الذي وضعته بكين، وإنشاء موسكو لـ «القيادة الاستراتيجية المشتركة للقطب الشمالي» في العام 2021، وهي «المنطقة العسكرية الخامسة» لروسيا، مشيراً إلى أن ذلك «إنما يدلل على مخطط ما، وكما تظهر الأحداث الحالية، فإن روسيا حينما تشير إلى أمر فإنه ينبغي إيلاء الاهتمام الكافي به. إنه ليس مجرد بلاغة خطابية ...».
أما اللواء تويفونين فيعتبر أن الحرب الأوكرانية «قد أماطت اللثام عن الأقنعة»، فيما يُعيد إلى الأذهان مشاركة فنلندا لحدود بطول 1,343 كيلومتراً مع روسيا. وحدد القائد السابق للجيش الفنلندي العوامل التي تسمح لفنلندا خوض القتال في منطقة القطب الشمالي، أبرزها بالطبع التضاريس الأرضية والمناخ، إذ إنّ البلاد بأكملها تشهد أحوالاً جوية قطبية خلال جزء كبير من العام.
وفيما شدد تويفونين على أن الفنلنديين عازمون على الدفاع عن بلادهم، ووصف نظام الدفاع الفنلندي بأنه «مزيج من دفاع مناطقي تقليدي وقدرات جديدة»، موضحاً بأنه ليس على الجندي فحسب أن «يتدرّب فيما يقاتل»، بل عليه أيضاً أن «يتدرَّب حيثما سيذهب لخوض القتال»، إذ إن على الجنود وعتادهم العمل في أحوال جوية قاسية جداً في ذلك الجزء الشديد البرودة من العالم.
وكشف العميد غيفري لماذا تحتفظ فرنسا بمصالح أمنية في منطقة القطب الشمالي أيضاً، ولو أنها ليست من الناحية التقنية بلد محاذ للمنطقة القطبية فعلياً (ما خلا منطقة «تيريه أدلييه» التي تزعم فرنسا امتلاكها في القطب الجنوبي). وقد نشرت الحكومة الفرنسية منذ فترة قصيرة استراتيجيتها القطبية الأولى ووضعت «وزارة القوات المسلحة» خارطة طريق واضحة جداً بغية الدفاع عن مصالحها في تلك المنطقة فيما «تُظهر تضامناً سياسياً واستراتيجياً تجاه حلفائها في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي- الناتو في المنطقة»، وعلى الأخص فنلندا، وكذلك السويد والنروج.
وشدد العميد الفرنسي أيضاً على أن منطقة القطب الشمالي تُمثل فرصة لتحدي روسيا، إذ إنها قد تكون «خاصرتها الرخوة». وأشار إلى الإرث التاريخي الفرنسي في شمال أوروبا (وتحديداً معركة «نارفيك» Narvick البحرية في العام 1940)، وفِرَق الجنود الجبليين الحالية المخصصة لخوض القتال في الأحوال الجوية الباردة/ الارتفاعات العالية/ المناطق الجبلية، المنضوية تحت «لواء المشاة الجبليين السابع والعشرين» (27th BIM)، الذي بإمكانه أن «ينخرط في القتال بأي مكان». وثمة كلية تدريب خاصة للقوات الجبلية في منطقة «شامونيه» Chamonix. كما أنّ «جبال الألب» توفر ميادين رمي لجميع الأعيرة، وتنفرد بموقع خاص في أوروبا الغربية.
وبدوره شدد العميد بيتر أندريسياك على واقع أن التدريب في الجبال ووسط الأحوال الجوية الباردة في الولايات المتحدة أصبح فناً مفقوداً على مدى العقود الماضية، بسبب التركيز على محاربة الإرهاب في مسرحي العمليات العراقي والأفغاني. لكنّ هذا التراجع في المهارات المتخصصة قد توقف منذ صيف العام 2020 عندما وضع الجيش الأميركي استراتيجية جديدة لإعادة إحياء «التدريبات العسكرية في أعالي الشمال» High North Training التي كانت شائعة سابقاً حتى نهاية العقد التاسع من القرن العشرين.
ووصف «المسار القطبي» (Arctic Path) بأنه استعادة للقدرة على خوض القتال وتحقيق النصر في تلك المنطقة من خلال تحسين التدريب المحاكي والمعدات الخاصة ببيئة القطب الشمالي، والتنافس عالمياً في هذا الإطار ليس مع كندا فحسب، بل أيضاً مع اليابان، وكوريا وفنلندا، والسويد والنروج، والدفاع عن «أقصى مناطق الشمال» في حالات الأزمات والنزاعات، وبناء قدرات لشن «عمليات متعددة المجالات في القتال القطبي» (Arctic Multi-Domain Operations)، وتعزيز القدرة على نشر قوات انطلاقاً من منطقة القطب الشمالي.
وأخيراً، وافق «نائب قائد الجيش الأميركي لأوروبا وأفريقيا» العميد بيتر أندريسياك مع نظرائه على الحاجة إلى «التدريب حيثما يقتضي خوض القتال» وشدد على الحاجة إلى إنشاء مراكز تدريب قتالية قطبية جديدة وإعادة تفعيل نشاط «الفرقة المجوقلة أو المحمولة جواً الحادية عشرة في آلاسكا» (11th Airborne Division - in Alaska)، وضرورة تصميم معدات دفاعية جديدة مخصصة لتلك المناطق القطبية إذ إن «المشكلة لا تبدأ ما دون درجة الحرارة 32 فهرنهايت [صفر درجة مئوية]، إنما تبدأ انطلاقاً منها»، وذلك تحسباً لما يُخفيه المستقبل من تطورات في تلك المنطقة القطبية الغنية بالموارد الحيوية والمتميزة بالموقع الاستراتيجي، وما قد تقتضيه التطورات المستقبلية من قتال في جو جليدي.